وقفات مع الشهيد محمد مصبح
بقلم: الشيخ ميثم الفريجي
عرفت الأخ الشهيد ابا عباس (رحمه الله) في أيام العزّ والطاعة والعمل الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد الحقيقي في احضان مرجعية سيدنا وقائدنا الشهيد السعيد محمد الصدر (قدس سره)
في عقد التسعينات من القرن المنصرم
كان رحمه الله طيب القلب. سليم السريرة، دمث الأخلاق، كريماً، صبوراً، شجاعاً، مضحياً، مطيعاً لمرجعيته وصادقاً معها.
وقد جمعتني معه مواقف متعددة أحاول أن اقف عند بعضٍ منها:
1/ الطاعة والولاء والعمل الصادق خدمة لمشاريع المرجعية الرسالية الهادفة سابقاً ولاحقا مع السيد الشهيد الصدر (قدس سره)، وتلميذه سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) ، فقد كان يعمل بصمت وصبر خدمة لمشاريع المرجعية ودعما لمواقفها.
2/ العمل الجهادي والتضحية بالنفس بُعيْد استشهاد مرجعنا الصدر (قدس سره)، فكان شجاعا بفطنة وذكاء، داعما للعمل الجهادي وباذلاً نفسه في سبيله.
وان كنت انسى فلا انسى ليلة الانتفاضة الصدرية المباركة الموسومة بـ (انتفاضة 17 / 3) عندما جمعنا الظرف القاهر في بيته الكريم. أنا وأخي فضيلة الشيخ علي خليفة ؛ بزينا الديني؛ وبتلك الظروف الحرجة والخطرة وقد كان المقرر ان نخرج سوية من بيته لأداء بعض المهام اللازمة. لكن منعنا ما تفاجئنا به من اعداد كبيرة من الرجال المدججين بالسلاح وقد طوقوا محيط المنطقة التي كنّا فيها. فانتظرنا حتى الصباح لنخرج ونتفقد الوضع الملتهب حيث النفير العام لعساكر وأمن صدام المجرم، والبعثيين والرفاق كالجراد من كل حدب وصوب، ونحن نتجول هناك فاوقفونا للاستعلام وطلب الهويات فكان موقفه شجاعا انقذنا من الوقوع بايديهم.
وقد كان (رحمه الله) محلاً للاسرار يومئذ وله الاطلاع بالتفاصيل السرية لحركة الشباب المجاهد والتواصل بين المحافظات والنجف الاشرف
3/ أشهر الاعتقال في سجون الطاغية في مديرية أمن صدام وبين يدي مدير امنها المجرم عقيد سعد العيثاوي ومن بعده المجرم عقيد عفّات وزبانيتهما : المجرم مقدم وليد، والمجرم رائد عباس، والمجرم نقيب احمد … وآخرون
حيث سبقته الى سجن الطاغية ثم دخل بعدي بأيام حينما ذكره بعض الاخوة بالاسم وذكر بعض مواقفه واخوته.
تعرّض للتعذيب ولاقى صعوبات جمّة فيه، فلم يضعف ولم يخرج ما في صدره من الاسرار، وقد افردوه في محجر خاص فكنت احدثه من سجن الكبير (1) ونتفق على مواقف موحّدة حال التحقيق والتعذيب.
وجدته صبوراً مستبشراً بالفرج في كلّ لحظة، وفعلاً شاء الله تعالى ان يفرج عنه ويخرج بعد اشهر من الآلام والمعاناة، ولقد اسمعني صوته في اللحظات الاخيرة له في سجن الطاغية، وقال: (ساسعى بكل جهدي وابذل الغالي والنفيس لاخلّصك من بين ايديهم باذن الله)
4/ أشهر الاعتقال في سجون الطاغية في مديرية أمن البصرة وبين يدي المجرم اللواء مهدي وزبانيتها واتباعهم
قضيت سبعة أشهر ونصف في مديرية أمن صدام وكانت من اشد واقسى ايام حياتي لاقيت فيها فنون التعذيب واحدث وسائله، وبفضل الله والطاف إمامنا المهدي (عليه السلام) لم يخرج من صدري، ولم ينطق لساني بكلمة ممّا احمله من اسرار ، ولم اتسبّب بايذاء مؤمن أو تسليمه بين يدي الاشرار ، و (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)، (وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)
وبعد هذه المدة نقلوني الى مديرية أمن الرصافة مع عدد من المؤمنين المجاهدين رحم الله المتوفين منهم وحفظ الله الباقين كلهم، ومنها الى مديرة أمن البصرة وقد علمت انه حدث نزاع بين الاشرار ، كلّ واحد منهم يطلب التحقيق معنا وآخرهم المجرم لواء مهدي فصرنا بين يديه. ومن جديد ذُكر اسم الشهيد محمد مصبح ( رحمه الله) ، فقادوه مكتوفا الى التحقيق والتعذيب وتكرر الحال فجدّد الصبر والصمود والاحتساب لله تعالى، ولم تمر فترة طويلة حتى اذن الله تعالى له بالخروج من سجن الطاغية
ولا أنسى حينما بشرني بمولودتي البكر فاطمة الحبيبة (2) عندما كنت في مديرة أمن البصرة وقد دخل المرحوم السهيد جديدا فيها، ولذلك قصة لعلَّ الله تعالى يقيّض لنا فرصة لسردها، وهو المستعان
5/ عندما كانت تتلاقفه الألسن بسوء الظن والغيبة والبهتان وغيرها ممّا ولَّدَه النفاق السياسي، والتزاحم المرجعي، والخلل الاخلاقي.
وقد تصدّى لذلك بثبات واطمئنان، ولسان حاله يقول : (ثابت الخطوة يمشي ملكاً)
قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) الحجرات:12
6/ عندما ختم الله له بالشهادة في سبيل الحق والمبدأ محتضنا جثمانه الطيب وحاملا له على الاكتفاء مع بعض اخوتي المؤمنين المفجوعين باستشهاده، ونحن نطوف في حضرة سيدنا الشهيد الصدر (قدس سره)، ومنه الى الحضرة المباركة لسيد الوصيين وإمام المتقين أمير المؤمنين (عليه السلام) الى أنْ أنزلناه في قبره حيث مقبرة عائلته في وادي السلام، وهو مرتاح الضمير بعد ان وفى لأهله وبلدته الطيبة البصرة الفيحاء، ولوطنه العراق العظيم، ولمرجعيته الرشيدة المباركة.
(1) السجن السياسي القديم الذي كان على شكل سرداب تحت الأرض، وكان معتقلا للمؤمنين ايام الحرب مع ايران كما حدثني بذلك الأخ المؤمن (رعد) حينما ترافقنا في سجن الطاغية وقصّ عليَّ ذكرياته حينما اعتقل فيه، وهو لازال حدثا دون الثامنة عشر من عمره مع خلية مؤمنة أعدم المجرم صدام جميع أفرادها
(2) حدث اعتقالي من جلاوزة أمن المجرم صدام بعد شهر ونصف فقط من زواجي، وقضيت هناك سبعة أشهر و نصف – عجاف بمعنى الكلمة – ثم نقلت الى مديرة أمن البصرة، وبعد شهر اعتقل المرحوم الشهيد ليبشرني بمولودتي فاطمة وبعد أيام استطاع أخوتي وبمساعدة الاخ والصديق الوفي الصادق المرحوم محمد (ابو عبد الله) بادخال بعض الطعام اليّ بشكل سرّي وقد اعطيته لبعض الاخوة ليشرف على توزيعه للاخوة المؤمنين في المعتقل، وإذا بهم يستخرجون من كيس السكر صورة لطفلة جميلة في ربيعها الأول مكتوب خلفها ( أبنتك فاطمة ) وقد رافقتني الصورة طيلة وقت اعتقالي ولها قصة وآهات تطول …