
كتبت نرمين المفتي: تابعت ندوة عن (حروب الجيل السابع) والتي تتميز بمستوى عالٍ من الاتصال والاعتماد على التكنولوجيا، وخاصة الذكاء الاصطناعي، الذي لا يقتصر دوره في الحروب فقط، بل تتعامل معه الدول التي تعمل للمستقبل كتكنولوجيا ثورية، أو أداة تغيير جذري في كل المجالات: من التعليم إلى الطب، ومن الأمن إلى الاقتصاد.
وهناك دول، الأكثر ثورية علمياً وسبقونا بأشواط نحو المستقبل، أدركت أن الذكاء الاصطناعي ليس فقط “أداة تقنية”، بل كيان سياسي وتشريعي يجب أن يخضع للرقابة، والتنظيم، والتقنين.
ولهذا، فإن البرلمانات المتقدمة بدأت تتحرّك: تشرّع، تراقب، وتناقش الذكاء الاصطناعي بوصفه قضية سيادية، لا تقنية فقط، ومنها بريطانيا، التي أنشأت مجموعة برلمانية مشتركة حول الذكاء الاصطناعي (APPG on AI)، تضم نواباً وخبراء مستقلين يناقشون السياسات الأخلاقية والاقتصادية، والولايات المتحدة التي أنشأت لجنة وطنية للذكاء الاصطناعي في الأمن القومي، فضلاً عن مكتب في البيت الأبيض يُنسّق سياسات الذكاء الاصطناعي، وفرنسا التي خصصت مفوضاً حكومياً للذكاء الاصطناعي، يعمل تحت إشراف رئيس الوزراء مباشرة، وكندا التي أسست مجلساً استشارياً للذكاء الاصطناعي، وبدأت في إصدار قوانين تُعنى بأخلاقياته، خصوصاً في الرعاية الصحية والتوظيف.
أما الصين، فلم تكتفِ بالتنظيم، بل تعتبر الذكاء الاصطناعي مشروعاً وطنياً، تديره عبر لجنة عليا داخل مجلس الدولة، وكانت الإمارات العربية السبّاقة عربياً بتعيين وزير دولة للذكاء الاصطناعي، وإطلاق (الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي 2031)، والسعودية خصصت هيئة مستقلة (SDAIA) لتقود التحول الرقمي، وتُنفذ مشاريع كبرى مثل “نيوم” كمدينة ذكية قائمة على الذكاء الاصطناعي.
وهناك قطر التي تعمل بخطى حثيثة نحو بناء منظومة متكاملة للذكاء الاصطناعي، بالتعاون مع مراكز أبحاث عالمية، ومصر التي أطلقت استراتيجيتها للذكاء الاصطناعي، وأنشأت المركز القومي للذكاء الاصطناعي، وتُركّز على تدريب الكوادر الوطنية وتمكين الشباب.
هذه الدول فهمت أن الذكاء الاصطناعي هو مفتاح الاستقلال الرقمي والسيادة التقنية، وبدأت فعلياً ببناء بيئات تشريعية، تعليمية، واقتصادية حاضنة له.
في الوقت الذي تعيد فيه الدول صياغة حاضرها لبناء مستقبل تقوده الخوارزميات وتُديره البيانات، يقف العراق على مفترق طرق حاسم: إما أن يلتحق بركب الذكاء الاصطناعي، أو أن يكتفي بدور المتفرّج على ثورةٍ رقمية تُعيد رسم خريطة النفوذ والمعرفة والإنتاج.
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد مظهر من مظاهر التقدّم التقني، بل صار أحد الأعمدة الأساسية لنهضة الدول في مجالات الاقتصاد، الصحة، الأمن، والتعليم. إنه لغة المستقبل، ومن لا يُتقنها، يُقصى من المعادلة العالمية الجديدة.
والذكاء الاصطناعي لا يحتاج فقط إلى بنية تحتية رقمية، بل إلى رؤية سياسية، وتشريعات، حوكمة، وحماية الخصوصية والبيانات الشخصية، ومؤسسات تُدرك أن هذه التكنولوجيا لا تحتمل العشوائية.
المحزن في وضع العراق أن الخوارزمي (المولود في خوارزم والمتوفى في بغداد) أنجز جميع كتبه في العراق، ومن بينها في الرياضيات، ويُعتبر تاريخياً مؤسس علم الجبر ومبتكر النظرية التي أُطلقت عليها اسم (الخوارزميات) نفسها.
لا يزال (العراق) يفتقر إلى استراتيجية وطنية واضحة للذكاء الاصطناعي، ولا توجد لجنة برلمانية، وزارة، أو هيئة عليا مختصة تدير هذا الملف الحيوي، وتتَبنى مشاريع قوانين تحمي البيانات الشخصية، وتعمل على تطوير وتوسيع منظومات الحوكمة الرقمية، تضبط العلاقة بين المواطن والمؤسسات كافة، وليس الاكتفاء بعدد محدود من المؤسسات.
لا بد من إنشاء هيئة وطنية مستقلة للذكاء الاصطناعي، ترتبط برئاسة الوزراء، وتعمل على وضع خطط استراتيجية طويلة الأمد، وسنّ قوانين لحماية البيانات، وضمان الشفافية الرقمية، ومحاربة استخدام التكنولوجيا لأغراض الفساد، وتطوير المناهج الدراسية لتعليم البرمجة والذكاء الاصطناعي من المراحل المبكرة، ودعم المشاريع الناشئة والمبادرات الفردية، وربطها بشبكات تمويل وتدريب محلية وعالمية، وتشجيع الشراكات الدولية مع شركات تقنية ومراكز بحث متقدمة.
لا يفتقر العراق إلى الذكاء وكفاءات علمية في الداخل والخارج، لكنه يفتقر إلى القرار السياسي والإرادة المؤسسية في هذا المجال، وحين يُصبح الذكاء الاصطناعي في أيدي دولٍ مجاورة تُخطط لعقود قادمة، يُخشى أن يتحوّل العراق من صانعٍ للتاريخ العلمي إلى مستهلك لنتائج الآخرين.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز
لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز