ضيافةُ الصيام …وجه ٌ آخر…
بقلم المبلغة:أُمّ حوراء الندّاف
فرقٌ كبيرٌ بينَ أنْ تكونَ الصلاةُ مُجزيةً وبين أنْ تكونَ مقبولةً؛ ففي الصورةِ الأولى يقفُ المُصلّي عندَ أدنى مُقدِّماتِ الصلاةِ وأشراطِها من نيّةٍ ووضوءٍ وذكرٍ وركوعٍ وسجود، كمن يستظِلُّ بشجرةٍ من دونِ قطفِ ثمارها؛ لأنّه لا يرى سوى شجرة، أما الصورةُ الثانية، فالمُصلّي يرى وجهًا آخرَ للصلاة، فلا يقفُ عندَ حدِّ الاستظلالِ، بل يقطفُ الثمارَ ويتناولُها ويلتذُّ بحلاوةِ طعمها ولا يرومُ عنها بدلًا.
“إلهِي مَنْ ذَا الَّذِي ذَاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ، فَرامَ مِنْكَ بَدَلًا، وَمَنْ ذَا الَّذِي أَنِسَ بِقُرْبِكَ، فَابْتَغَى عَنْكَ حِوَلًا”(١)
الأولُ وقفَ عندَ ظاهرِ الصلاة، والثاني غاصَ في أعماقِها؛ ليستخرجَ كنوزَها بتوفيقٍ ورحمةٍ من الحقِّ (سبحانه)، وهو المُسدِّدُ لعبادِه بسعيهم لمرضاتِه.
قال (تعالى): (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلنا)(٢)
فهل للصيامِ نصيبٌ من هذه القاعدة؟
من دونِ شكٍ أنَّ قاعدةَ الظاهرِ والباطنِ -وهي من القواعدِ القرآنيةِ المعروفة- تنسحبُ على سائرِ آياتِ اللهِ (تعالى) وفرائضِه وتشريعاتِه ومنها الصيام، استنادًا إلى قانونِ وحدةِ النظم في علمِ الكلام.
فالصائمون أقسامٌ:
القسمُ الأول: يقفُ عندَ حدِّ الامتناعِ عن تناولِ الطعامِ والشرابِ والالتزامِ ببعضِ الأورادِ والنوافلِ، فلا تصلُ هِمّتُه إلى ما هو أبعدُ من مُجرّدِ الاستظلالِ بأغصانِ الشجرة.
والقسمُ الثاني: يمدُّ يدَه ليقطفَ الثمرةَ، و قد يُسعِفُه الحظُ فينالُ نصيبًا أوفرَ من المغفرةِ والعتقِ من النيران، لكنّه في قابلِ الأيامِ إذا ما ابتعدَ عن الشجرةِ قد يتعثّرُ فتسقطُ الثمرةُ من يده، وتُصيبُه الحسرةُ على ما فرّطَ في جنبِ اللهِ (تعالى) من معاودةٍ لارتكابِ المعاصي واقترافِ الذنوب، ومنها ما لا يتداركُ إلا بشهرِ رمضانَ أو بالوقوفِ على جبلِ عرفة.
أما القسمُ الثالث: فهم أولئك الذين يعتصمونَ بالشجرةِ طوالَ العام؛ لأنّهم يرونَ فيها الملاذَ والنجاةَ من بؤسِ ما ظهرَ من الظُلمِ والجورِ في البرِّ والبحرِ بما كسبتْ أيدي الناس. فيُروِّضون أنفسَهم بالورعِ عن محارمِ اللهِ تعالى، ليقوها وأهليهم نارًا وقودُها الناسُ والحجارةُ أعِدّتْ للكافرين، ويفتتحونَ ثناءَهم على اللهِ (تعالى) بتحميدِه وتمجيدِه ابتداءً من رجب مرورًا بشعبان وصولًا إلى شهرِ رمضانَ؛ ليبلغوا ليلةَ القدرِ، وكُلُّ ذرةٍ من كيانِهم الذي طهُرَ بالتوبةِ والاستغفارِ يُنادي: (اللهمّ إنّا نرغبُ إليك في دولةٍ كريمةٍ تعزُّ بها الإسلامَ وأهلَه، وتذلُّ بها النفاقَ وأهلَه) مُتوسِّلين مُتضرّعين لنيلِ مقامِ النُصرةِ والمُشايعةِ والاستشهادِ بينَ يدي صاحبِ ليلة القدر، الداعي إلى كتابِ اللهِ (تعالى) والقائمِ بدينه؛ فهم مذهولون عن الدُعاءِ للنفسِ والولدِ بالدُعاءِ لمن ودّوا لو يفتدونه بأنفسِهم وأولادِهم.
إنّه الوجهُ الآخرُ لشهرِ الرحمةِ والمغفرة، وجهٌ يعرَفُ في ليلةِ القدرِ بوابةَ الفرج، وجهُ الضيافةِ الربّانيةِ المؤيّدةِ للعبادِ بغلقِ أبوابِ النيرانِ وحجبِ وساوسِ الشيطان، عسى أنْ نكونَ لائقينَ بالتضرُّعِ في ليلةٍ هي خيرٌ من ألفِ شهر، فيُرفَع الدُعاءُ ويتحقّق المطلبُ.
“شهرٌ دُعيتم فيه إلى ضيافةِ الله…”(٣)…
وكأنّ الرسولَ الأعظمَ (صلوات ربي وسلامه عليه وآله) يُريدُ القولَ: أيُّها العبادُ أنتم مدعوونَ لرؤيةِ ذلك الوجهِ الآخرِ لتؤدّوا حقَّ الضيافةِ وتنهلوا من معينِ الغفرانِ بسعيكم الحقيقي لتقويمِ أنفسِكم بالورعِ والتقوى؛ لتزولَ الحُجُبُ في ليلةِ الفتحِ المُبين، ليلةِ القدر، فيُستجابُ الدعاءُ ويؤذَنُ بإقامةِ دولةِ العدلِ التي ارتسمتْ ملامحُها في دُعاءِ الافتتاحِ المهدوي، الذي تزدانُ به ليالي شهرِ رمضان، وقد دُعينا إلى أنْ ندعو به في كُلِّ ليلة، فقد آنَ الأوانُ لنخرجَ من إطارِ الدُعاءِ للفردِ إلى أُفُقِ الدُعاءِ الحثيثِ للأمّة.
(اللّٰهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنا (صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، وَغَيْبَةَ وَلِيِّنا، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنا، وَقِلَّةَ عَدَدِنا، وَشِدَّةَ الْفِتَنِ بِنا، وَتَظاهُرَ الزَّمانِ عَلَيْنا، فَصَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَعِنَّا عَلىٰ ذٰلِكَ بِفَتْحٍ مِنْكَ تُعَجِّلُهُ، وَبِضُرٍّ تَكْشِفُهُ، وَنَصْرٍ تُعِزُّهُ، وَسُلْطانِ حَقٍّ تُظْهِرُهُ، وَرَحْمَةٍ مِنْكَ تُجَلِّلُناها، وَعافِيَةٍ مِنْكَ تُلْبِسُناها، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين)(٤)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١/مناجاة المحبين، مفاتيح الجنان،شيخ عباس القمي.
٢/سورة العنكبوت الاية ٦٩.
٣/خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في استقبال شهر رمضان.
(٤)دعاء الافتتاح، مفاتيح الجنان ، شيخ عباس القمي.