كتب د. باسل عباس خضير: التضخم (inflation) ظاهرة مرت وتمر بها كل البلدان ومن مظاهرها الزيادة في أسعار السلع والخدمات، وهي ظاهرة تحظى باهتمام عالمي وتوليها معظم الحكومات اهتماماً بالغاً للوقاية منها وفي العلاج نظراً لتداعياتها الخطيرة على الاقتصاد والسكان.
وفي بلدنا نعيش حالة التضخم منذ عقود ورغم ما يسببه التضخم من انعكاسات سلبية إلا أنه لم يشهد معالجات ترقى لمستوياته ومعدلاته التي يتم إحصاءها ورصدها من قبل جهات عدة، ومنها الجهاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط، فقد أشر هذا الجهاز وبعض المنظمات المستقلة نمواً متزايداً في التضخم وهو نمو سلبي بالطبع ويتسبب بكوارث وأزمات للعائلة والفرد وبالذات أصحاب الدخل المحدود، ووفقاً لبعض الإحصاءات فإن ثلث السكان على الأقل يعيشون تحت خط الفقر وأغلبهم إن لم نقل جميعهم هم من ضحايا التضخم، لأن من تتوفر لديه مدخولات فإنها شبه ثابتة ولا تواكب الزيادة في الأسعار التي لم تتراجع أو تتوقف يوم، ومعظم الأفراد العاملين والعاطلين في البلاد ليست لهم الإمكانية لتعظيم مواردهم، لأن نسبة مهمة من السكان يعولون على المدفوعات من الدولة التي تمتاز بكونها بشبه الثبات.
ونخص بالذكر الموظفين والمتقاعدين والمشمولين بشبكة الحماية الاجتماعية، فالموظف لا يزداد راتبه إلا من خلال العلاوات والترفيعات التي لا تعني شيئاً مقارنة بنسب التضخم التي تشهدها الأسعار، كما إن المتقاعدين من العسكريين والمدنيين تنخفض رواتبهم عند الإحالة إلى التقاعد، لأن القوانين المرعية تحسب لهم الاستحقاق التقاعدي على أساس معدل الراتب الاسمي الأخير من دون المخصصات، وهذه الرواتب تبقى ثابتة ولا تراعى فيها المتغيرات، إما المشمولين بالشبكة فإنهم يتقاضون إعانات أقل من حدود الكفاف ولا تزداد مقاديرها إلا قليلاً بالمكرمات.
ووفقاً لإحصاءات نشرتها مؤسسة عراق المستقبل (منظمة غير حكومية) فإن نسبة التضخم السنوية لشهر كانون الثاني 2023 قد ارتفعت لتبلغ أكثر من 8.2%، وهو الارتفاع الشهري الأعلى للعراق منذ سنوات، وقد بلغت نسبة التضخم السنوية بقطاع الأغذية 10.4%، بينما بلغت نسبة التضخم السنوية بقطاع النقل 13.9%، وأعلى ارتفاع في نسب التضخم أصابت قطاع إمدادات الكهرباء والمياه، فقد ارتفعت بنسبة 34% مقارنة مع ذات الشهر للعام السابق.
ووفقاً لاستنتاج المؤسسة ذاتها فإن التضخم يعد كبيراً عندما يكون بمعدل يزيد عن 8% برواتب لا يزيد متوسطها عن 500 دولار شهرياً مقارنة بزيادة لنسبة التضخم 3% في بلد معدل رواتب موظفيه لا يقل عن 3000 دولار شهرياً (السعودية مثلاً)، وإذا كانت نسبة التضخم تزداد بهذا الشكل (المخيف) فأول ما يتبادر للذهن السؤال عن الوسيلة التي يلجأ إليها محدودي الدخل لردم ثغرة التضخم، وتدبر أمور المعيشة والحياة في ظل محدودية البدائل والخيارات، وصحيح إن البعض قد يلجأ لإنفاق مدخراته أو تسييل موجوداته ولكن إلى متى تصمد تلك المعالجات؟.
وكما هو معروف فالغالبية من محدودي الدخل لا يملكون مدخرات واحتياطيات وموجودات تعينهم في توفير ما يحتاجوه، ولهذا فإن بعضهم يلجأ لتقيين المصروفات للحدود الممكنة أو الوقوع بمعاناة العوز والفقر والفاقة أو اللجوء لوسائل صعبة كالاقتراض والترقيع وغيرها، ووجود فوارق كبيرة بين الموجود والمطلوب في ظل ارتفاع معدلات البطالة للنسب المعروفة، ربما يؤدي إلى خيارات صعبة وحرجة ولها تداعيات خطيرة على الإنسان والمجتمع لا نريد الخوض في مفرداتها لما تتطلبه من تفاصيل واحتمالات.
والتضخم الذي يسود في بلادنا منذ عقود وإن كان جزءاً منه ينتمي للتضخم العالمي إلا أن للفشل والفساد الذي تعرض له اقتصادنا المحلي وضعف عوامله البنيوية وغياب هويته الوطنية، عوامل تركت أثراً واضحاً في تفاقمه، ولهذه الأسباب منيت معظم إجراءات المعالجة بحالة الضعف وبشكل ضاعف الضرر على المواطن وأحدث ثغرات في مختلف القطاعات، والأمر سيزداد سوءاً أن لم تتدارك الأمور، وتضخم بهذا الوصف من التعقيد فإن حلوله تستعص بمرور الوقت ودائرة تداعياته الضارة تتوسع تدريجياً، ودليل ذلك تقلص حجم الطبقة الوسطى في مجتمعنا وتحول أغلبهم لفقراء، ومعالجة التضخم يجب أن يتصدر الأولويات بخطط واستراتيجيات فاعلة لأن حلوله لا يمكن أن تكون بالترقيع والإرضاء، وصحيح إن بعض معالجاته ترتبط بالتأثيرات من الأسواق العالمية إلا أن بلدنا أكثر قدرة في احتواء تداعياته كونه مصدر للنفط الذي يوفر التعويض من تلك الارتفاعات.
والعبرة ليس في تصدير النفط وإنما في الكيفية التي تستخدم فيها الإيرادات فمعظمها لم تخصص للتنمية والاستثمار، وإنما لأغراض وإنفاقات تشغيلية أغلبها يعتمد على الاستيراد، والدولة يجب أن لا تركز اهتمامها في التصدي لما يطفو على السطح من نتائج التضخم، كزيادة الشمول بالرعاية وتمويل مشاريع خاسرة وتعيين العاطلين لدرء الأخطار الناجمة عن التضخم، وإنما باختيار بوصلة واضحة لتحديد مسارات التصدي للتضخم بإجراءات فيها إرادة وقرار وتمكن في رفع معدلات الناتج المحلي غير النفطي، لا من خلال فرض الضرائب والرسوم ومضايقة الفقراء، وإنما بإصلاحات عادلة تريح السكان وتوفر لهم العمل والدخل من عمل حقيقي وليس بالصدقات، وذلك ليس من المستحيلات فمن الممكن أن يولد وينمو بعمل مؤسساتي قائم على نكران الذات والتخطيط بتوظيف الموارد والاستفادة من الكفاءات الحقيقية التي تزخر بها البلاد.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا في موقع التلغرام: النعيم نيوز
ولمتابعتنا على موقع فيسبوك يرجى الضغط أيضا على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
ولا تنسى أيضا الاشتراك في قناتنا على موقع الانستغرام: النعيم نيوز