كتب عبد الباري عطوان.. من يُتابع تصريحات المسؤولين الغربيين الكِبار وافتتاحيّات صحافتهم وتغطيتهم وتحليلاتها للتطوّرات الميدانيّة للحرب الأوكرانيّة يلمس حالةً من الفُتور، الأقرب إلى اليأس، بالمُقارنة إلى حالة الحماس المُعزّزة بالثّقة بالنّصر التي كانت سائدة في بداياتها الأولى، أي قبل 18 شهرًا من اقتِحام الدبّابات الروسيّة للحُدود الأوكرانيّة.
الانطِباعات السّائدة حاليًّا، وبعد اقتِراب الهُجوم الأوكراني المُضاد من نهايته دون تحقيق أيّ نتائج ملموسة على صعيد استِعادة الأقاليم الأربعة التي ضمّتها موسكو في بداية الحرب، إلى جانب إقليم شِبه جزيرة القِرم، هذه الانطِباعات يُمكن تلخصيها في النقاط التالية:
أوّلًا: تعاظُم حالة التّشاؤم في أوساط الشعب الأوكراني من جرّاء تصاعُد الخسائر في أوساط جيشهم، حيث بلغ تِعدادُ القتلى أكثر من 71 ألفًا مُنذ بدء الهُجوم المُضاد، علاوةً على تدمير مِئات الطّائرات والمُسيّرات، وآلاف الدبّابات والمُدرّعات والعربات المُصفّحة، وهذا ما يُفسّر هُروب الشّباب الأوكراني إلى دُول الجوار، ورفض الخدمة العسكريّة.
ثانيًا: التّصريحات التي أدلى بها ينس ستولتنبرغ أمين عام حِلف “الناتو” يوم أمس ووجّه فيها رسالة إلى حُكومات ومُواطني دُول الحِلف تُطالبهم بالتهيّؤ لحربٍ طويلة، مُستَبْعِدًا في الوقتِ نفسه وجود نهاية سريعة، هذه التّصريحات عزّزت حالة التّشاؤم والقلق الموجودة حاليًّا في أوروبا، فالقارة الأوروبيّة لا تستطيع التّعايش مع احتِمالات إطالة أمد الحرب في ظِل التّدهور الاقتِصادي الذي تعيشه حاليًّا وخلوّ مخازنها من الأسلحة والذّخائر بفضلِ دعمِ هذه الحرب، ونزيفها اليوميّ.
ثالثًا: المعدّات العسكريّة التي انهالت على الجيش الأوكراني، مِثل دبّابات ليوبارد الألمانيّة، وأبرامز الأمريكيّة، وتشالنجر البريطانيّة فشلت في تحقيقِ تغييرٍ نوعيٍّ في ميادين القِتال لصالح أوكرانيا بعد مُرور 18 شهرًا على الحرب، والأخطَر من ذلك أنه جرى تدمير مُعظمها بحُكم الدّفاعات الروسيّة القويّة الأرضيّة والجويّة.
رابعًا: الصّحافي الأمريكي الشّهير جارلاند نيكسون لم يُجانب الصّواب عندما قال في مدوّنة على “اليوتيوب” إنّ الدولة الأوكرانيّة لم تعد موجودة، وأصبحت أداةً للسّياسة العُدوانيّة الأمريكيّة، والقفّاز الذي يرتديه اللّص الأمريكي لتجنّب ترك بصماته، فأوكرانيا باتت دولةً تابعة، وتفتقد إلى كُلّ أشكال السّيادة والاستِقلاليّة.
خامسًا: فشل قمّة العشرين التي أرادها الرئيس جو بايدن الغِطاء الدّاعم لحربه في أوكرانيا في التوصّل إلى قرارٍ مُوحّدٍ بشأنها، ودعم رئيسها زيلينسكي بسبب الانقِسامات في داخِلها، وتباين وُجهات النّظر، وهذه ضربة معنويّة قويّة للسّياسات الأمريكيّة التي تُديرها بالرّيموت كونترول وعن بُعد.
***
الرئيس الأمريكي بايدن توعّد بتزويد الجيش الأوكراني بصواريخٍ بعيدة المدى في الأسابيع القليلة المُقبلة، بعد فشل الصّواريخ القصيرة المدى وطائرات “إف 16” في تغييرِ قواعدِ الاشتِباك، وهذه الخطوة ستعني استِفزازًا أكبر للقِيادة الروسيّة التي هدّدت بقصفها، ونقل الحرب من حربٍ بالإنابة بين روسيا وأمريكا، إلى حربٍ مُباشرة، لأنّ العُمُق الروسي سيكون الهدف الرئيسي لهذه الصّواريخ، ممّا قد يتطلّب رَدًّا رُوسيًّا بالمِثل، ربّما لن يقتصر على العُمُق الأوكراني وقد يمتدّ إلى القواعد الأمريكيّة في أوروبا، أو حتّى العُمُق الأمريكي، خاصَّةً بعد دُخول صواريخ “سارمات” الأسرع من الصّوت والعابِرة للقارّات في خدمةِ الجيش الروسي.
لقاء القمّة بين الرئيس بوتين وضيفه الكوري الشمالي كيم جونغ أون، واتّفاق التعاون الاستراتيجي بين الجانبين يعني وضع روسيا يدَها على واحدةٍ من أضخم التّرسانات العسكريّة، ومخازن الأسلحة، والذّخائر والصّواريخ من مُختلف الأحجام والأبعاد في العالم، مثلما يعني دعمًا صينيًّا بالوكالة للموقف الروسي في الحرب الأوكرانيّة، فكوريا الشماليّة لا يُمكن أن تُقدم على هذا التّعاون دُونَ ضُوءٍ أخضر مُباشر وقويّ من بكين.
مع اقتِراب الهُجوم الأوكراني المُضاد من نقطة النّهاية، ودُخول القارّة الأوروبيّة موسم الشّتاء، فإنّ الكفّة الروسيّة على الصّعيدين العسكريّ والمعنويّ قد تكون الأرجح، فالشّتاء يعني استِهلاك المزيد من الطّاقة، ورفع أسعارِها (الغاز والنفط) بالتّالي، وبِما يُعزّز موقف روسيا التي تحتلّ المرتبةَ الأُولى كأوّل دولة مُنتجة ومُصدّرة للغاز في العالم، والثانية كمُصدّر للنفط بعد المملكة العربيّة السعوديّة، الأمر الذي سيُنعش الخزينة الروسيّة بعشَرات المِليارات الإضافيّة.
لأنّنا نعيشُ في أوروبا، نلمس عن كثبٍ حالة “التّململ” في أوساط شُعوبها من جرّاء تورّط حُكوماتها في هذه الحرب، من قِبَل الولايات المتحدة البعيدة عنها، والصّعوبات المعيشيّة المُتزايدة نتيجةً لذلك، الأمر الذي ينعكس على شكل تَصاعُد مشاعر الكراهية للإدارة الأمريكيّة وسِياسات التبعيّة لها، ودعم حُروبها في أوكرانيا وغيرها، ولعلّ تحذيرات أمين عام حِلف “النّاتو” بأنّ هذه الحرب التي ابتُلِيَتْ بها أوروبا بعد 78 عامًا من الأمنِ والاستِقرار، ستطول وليس هُناك نهاية قريبة لها، ستُضاعف حالة التّشاؤم والإحباط التي تعيشها القارّة الأوروبيّة هذه الأيّام.
هُناك ثلاثة خِيارات لوضعِ حدٍّ لهذه الحرب، والخُروج منها بأقلّ قدرٍ من الخسائر:
الأوّل: نجاح التحرّك الحالي من بعض نوّاب الكونغرس، وبدعمٍ خفيّ من الدّولة العميقة الأمريكيّة (المُؤسّسة) في عزلِ الرئيس الحالي جو بايدن، الأب الرّوحي والفِعلي لتفجير هذه الحرب على أملِ الإطاحة بروسيا، عدوّه الأوّل وتفكيكها، أو العمل على إسقاطه في الانتِخابات الرئاسيّة المُقبلة في تشرين ثاني (نوفمبر) عام 2024.
الثاني: اغتِيال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أو عزله، وتولّي رئيسٍ جديد السّلطة يتبنّى سِياسات أكثر مُرونة تُجاه مُبادرات السّلام التّفاوضيّة، ووقف إطلاق النّار، والتمسّك باتّفاق “مينسك” الذي ينصّ على حِياد أوكرانيا وعدم انضِمامها إلى حِلف “النّاتو” بالتّالي.
الثالث: انجِرار أمريكا إلى حربٍ مُباشرة ضدّ روسيا، ولُجوء الأخيرة إلى الرّد النووي لحسم الحرب وهدم المعبد على رُؤوسِ الجميع مثلما هدّد ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي أكثر من مرّة.
من الصّعب علينا الانحِياز، وبالتّالي تفضيلِ أيٍّ من الخِيارات الثلاثة، ومن الحكمة التحلّي بفضيلةِ الانتِظار، والمُراقبة عن بُعد، ولكنّنا لا نستبعد في الوقتِ نفسه، أن يكون الشّتاء المُقبل مُختلفًا عن سابقه، وحافِلًا بالمُفاجآت التي ليست في صالحِ أوروبا وأمريكا، سِياسيًّا وعَسكريًّا واقتِصاديًّا، بالنّظر إلى التطوّرات الميدانيّة في جبَهات القِتال.. واللُه أعلم.