صلاة الجمعة العبادية في كربلاء..بإمامة السيد كرار الموسوي
أقيمت صلاة الجمعة العبادية في مسجد جنات النعيم في كربلاء المقدسة بإمامة فضيلة السيد كرار الموسوي.
وقد تناول في الخطبة الاولى وتابعتها “النعيم نيوز”، “مقامات فاطمة الزهراء ع … وفي الخطبة الثانية خصائص القيادة.
مقامات فاطمة الزهراء عليها السلام…
أهمية معرفة المقامات النورانية لأهل البيت عليهم السلام له ثلاثة آثار مهمة على المؤمن:
١- البعد العقائدي: نحشر يوم القيامة على قدر معرفتنا لمقام الأئمة.
٢- البعد العاطفي: كلما كان الوليّ مقامه أعلى، انجذبنا له أكثر لأن الإنسان بطبعه مفطور على الكمال.
٣-إدراك عظم المظلومية هي التي تعطي الرابط بيننا وبين أهل البيت والتفاعل معهم، إن عرفنا عظم مقامهم عندها نعرف عظم الاعتداء عليهم عند الله تعالى.
من خصائص السيدة الزهراء عليها السلام أموراً كثيرة منها :
المقام الأول :اختصت عليها السلام دون كل البشر بأن نورها المخزون في ساق العرش انتقل الى الجنة ومنها إلى صلب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله فنورها لم يمر بأصلاب أحد حتى الأنبياء عليهم السلام سوى رسول الله صلى الله عليه وآله.
كانت إبنتي فاطمة نور في شجرة في الجنة فاقتطفت تلك الثمرة فأكلتُ منها فواقعتُ خديجة فحملتْ بفاطمة”
المقام الثاني: أمومتها للنبي (صلى الله عليه وآله ) فى مقابل أمومة زوجاته للمؤمنين.
واذ أكرم الله زوجاته صلى الله عليه وآله بأن جعلهن أمّهات للمؤمنين لقوله تعالى» النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ « اشارة الى بعض آثار الامومة من الاحترام و التكريم لهن كاحترام الأم الحقيقة وتكريمها، فانّ فاطمة عليها السلام قد فاقت منزلتهابحجيتها الالهية لتكون أمّاً للنبي صلى الله عليه وآله وعلى لسانه بقوله» فاطمة أمّ أبيها « مما يشيرالى عِظم منزلتها وخطير درجتها، فأمومتها له صلى الله عليه وآله تعني أن هناك علاقة ارتباط وثيق على مستوى الحجية، أي انّ امومتها للنبي صلى الله عليه وآله فضلًا عن رعايتها له صلى الله عليه وآله والقيام بشؤونه، فانّ لأمومتها جنبة اشراف ورعاية لدعوته وتصديقه، كاشراف مريم عليها السلام لنبي الله عيسى ورعايتها له فضلًا عن رعايتها لدعوته والقيام ببعض شؤون رسالته.
المقام الثالث: رضا فاطمة رضا الله وغضبها غضبه تعالى.
روى الفريقان أن رضا فاطمة رضا الله تعالى وغضبها غضبه، فقد روي في عوالم العلوم عن المناقب: أن النبي صلى الله عليه وآله قال:» يا فاطمة انّ الله ليغضب لغضبك ويرضالرضاك
وروى أهل السنّة بأسانيد مختلفة وطرق متكثرة مثل ما اخرجه محب الدين الطبري في ذخائر العقبى عن علي بن أبي طالب عليه السلام انّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال:» يافاطمة انّ الله عزوجل يغضب لغضبك ويرضى لرضاك «.
ويُعد هذا الحديث من جملة الأدلّة على اثبات عصمتهاعليها السلام، فاضافة الى آيةالتطهير التي تدلّ على عصمتها وحجيتها على الخلق، اذ أن غضب فاطمة ورضاهادالّة على الرضا والغضب الالهيين مما يعني أن غضب فاطمة ورضاها فرع غضب الله تعالى ورضاه ومتى ما كان الامر كذلك فاننا نستكشف بالدليل الإنّي عصمتَهاعليها السلام، اذ لا يكون الرضا والغضب الصادرين من قبل شخص، رضا وغضب الهي الإ حينما يكون هذا الشخص بعينه معصوماً عن كل عيب ممتنعاً عن كل قبيح ليكون رضاه وغضبه في حدود الرضا والغضب الالهيين.
كما انّ في الحديث دلالة كافية للزوم ولايتها وطاعتها على الخلق حتى يحصل بذلك رضاها ويتحقق عدم غضبها عليها السلام، فاذا تحقق ذلك أمكن احراز الرضا الإلهي وتجنّب غضبه تعالى، مما يؤكد أن هذه المواصفات لا تتوفر إلا لمن تمتع بمقام الحجية والتطهير الإلهيين الملازم لوجوب الطاعة على الخلق.
المقام الرابع: ولايتها فى ألامور العامة
بما فيها الاموال العامّة وذلك لدخولها في عنوان ذوي القربى، بل هي أول من يصدق عليها هذا العنوان فلم يكن أحداً أولى بالنبي منهاعليها السلام فتدخل في ذوي القربى اللازم مودتهم أي اللازم ولايتهم، والتي تعني ولايتهاعليها السلام، وهي عامة كماتدخل في الولاية المفادة في آية الانفال والفيء والخمس المقتضية لكون إدارة الاموال العامة تحت نظرها بل ذلك هو عين الولاية في الامور العامّة، لأنه ملكيةالتصرف في كل الارض وهو عين ماهية الولاية المزبورة، مع أنهاعليها السلام ليست بامام تستقل في تلك الولاية، بل بالمشاركة مع النبي والامام بنحو طولي وقد نصّت الآيةفي قوله تعالى» وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ « بأنها نزلت فيهاعليها السلام للروايات المتواترة بين الطرفين، كما أن دخولها في ذلك العنوان عليها السلام وأسبقية رتبتها في تولي النبي صلى الله عليه وآله مقتضي لكونها وارثة روحية لمقامات النبي صلى الله عليه وآله كما هي وارثة بدنية له صلى الله عليه وآله أيتكويناً وتشريعاً، والاول بلحاظ الكمالات المعنونة والمقامات الملكوتية، والثاني بلحاظ المناصب والاموال الاعتبارية إلا ما خصصه الدليل كالامامة.
وقد وردت الاشارة الى هذه الوراثة في زيارتي الحسين عليه السلام يوم عرفة ما نصّه:» السلام عليك ياوارث فاطمة الزهراء « وفي زيارة مطلقة له عليه السلام كذلك كما ورد في زيارة الامام علي بن موسى الرضاعليه السلام ما نصه:» السلام عليك يا وارث فاطمة الزهراء « مما يدلل على وقوعها في سلسلة الوراثة اللدنية النورية للمعصومين الاربعة عشر ع.
الخطبة الثانية :
وقال السيد كرار الموسوي بعض خصائص القيادة المستوحاة من عهد امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر.
١.العمل الصالح: ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده. فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحبت أو كرهت.
٢. .الرحمة بالرعية :
وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم.
٣.الحذر من سخط العامة :
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرا عند الاعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم.
٤.الحذر من وزارء السوء:
إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام ! فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثما على إثمه. أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا، وأقل لغيرك إلفاً، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك.
٥.مداراة البسطاء وأصحاب الحاجات :
ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤسى والزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً. واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه.
٦.مواجهة الجمهور وجهاً لوجه :
واجعل لذوي الحاجات منك قسماًتفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله يقول في غير موطن: “لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع”. ثم احتمل الخرق منهم والعيّ، ونحِّ عنك الضيق والأنَفَ يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته. وأعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار.
رمزية فاطمة الزهراء للقيم المثلى.
وأضاف السيد كرار الموسوي يسأل بعضهم لماذا هذا التعظيم للزهراء؟ لماذا يحتفل المسلمون بالزهراء مولداً وشهادةً؟ ولماذا يروون هذه الأحاديث فيها ”فاطمة بضعة مني“، ”فاطمة شجنة مني يؤذيني ما يؤذيها“، ماذا قدمت الزهراء للبشرية؟ وماذا أعطت الزهراء للمجتمع وللحضارة الإنسانية؟ ماذا قدمت خصوصاً أنها عاشت عمراً قصيراً جداً؟ ماذا قدمت للمجتمع البشري حتى تستحق هذا التعظيم وهذا الاهتمام؟
أديسون أنار الكرة الأرضية بالكهرباء، نيوتن اكتشف الجاذبية، باستر اكتشف البكتيريا، آينشتاين بنظريته النسبية العامة والخاصة افتتح علوم، هؤلاء عمالقة عظماء قدموا للبشرية نتاجاً وعطاء لا ينتهي إلى يوم الدين، فماذا قدمت الزهراء في مقابل ما قدم هؤلاء؟ ماذا أعطت في مقابل ما أعطى هؤلاء حتى تستحق هذا الاهتمام والتعظيم كله؟ هؤلاء خدموا الحضارة منذ سنين وستبقى خدماتهم، ولكن ما هي خدمات الزهراء للحضارة الإنسانية حتى تستحق هذا الاحتفال والتعظيم والإجلال والإكبار؟
نقول : أولاً :ماذا قدمت مريم بنت عمران حتى يمتدحها القرآن الكريم؟ القرآن الكريم عندما يقف عند مريم وآسيا ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «11» وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ
وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ «12»﴾(التحريم)
فماذا قدمت مريم للمجتمع البشري سوى أنها كانت أماً لأحد الرسل؟ وماذا قدمت زوجة فرعون للمجتمع البشري حتى يذْكرهما القرآن بالثناء والتبجيل؟ وهذا السؤال لا يختص بمريم وآسيا، بل يجري على الدين نفسه، فماذا قدم الدين للمجتمع البشري؟ ما هي نسبة خدمات الدين في هذه الحضارة البشرية القائمة على الأرض؟
إذاً السؤال لا يختص بالزهراء بل هو سؤال عام، ولذلك يكون الجواب عنه جواباً عاماً لجميع هذه التساؤلات، فعندنا عدة أجوبة عن هذا التساؤلات:
الجواب الأول: هناك فرق بين الفلسفة المادية والفلسفة الدينية، والحياة لها قراءتان: قراءة الفلسفة المادية، وقراءة الفلسفة الدينية، فعندما نأتي إلى الفلسفة المادية نرى أنها تقوم على الحضارة، والحضارة تقوم على ثلاثة أركان: اقتصاد، تكنولوجيا، وطاقة، ولا تقوم حضارة بدون هذه الدعائم الثلاث، واليوم في زماننا هذا الدولة التي تمتلك المعلومة هي الدولة التي تتحكم في مصير الإنسانية، والسباق اليوم بين أمريكا والصين على امتلاك المعلومة وعلى الذكاء الاصطناعي، فالركيزة المهمة للحضارة والسيطرة على موارد الحضارة الرأسمالية القائمة هي بامتلاك المعلومة، وهؤلاء رواد الفلسفة المادية عندما يقرءون الحياة يقرؤونها من وجهة نظر مادية ولذلك يقولون الحضارة هي اقتصاد وتكنلوجيا وطاقة، وهي ذكاء اصطناعي، وكل من قدم خدمة في هذه المجالات الثلاثة فهو قد خدم الحضارة وإلا فهو لم يقدم للحضارة الإنسانية شيئاً.
والقراءة الثانية ألا وهي القراءة الفلسفة الدينية للحياة، فإن الفلسفة الدينية تقرأ الحياة بأبعاد أخرى، الحضارة البشرية مطلوبة، والقرآن أمر ببناء الحضارة وقال: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61] أي طلب منكم إعمار الأرض، ويقول القرآن: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 20] أي اكتشفوا الحياة واكتشفوا أسس الوجود، ويقول أيضاً: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]، فالقرآن يأمر ببناء الحضارة ويدعو للحضارة ولكن أي حضارة؟
الحضارة لها أبعاد أربعة:
البعد الأول: العلم بما يشمل العلوم الإنسانية والعلوم المادية.
البعد الثاني: الأمن والسلم، فحضارة بدون أمن لا قيمة لها، ولا تستطيع أن توفر للإنسان جواً سعيداً ولا تستطيع أن توفر للإنسان حياة مستقرة، فالحياة تقوم على عصب الأمن والسلم، ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61]، الحضارة الرأسمالية بدأت من قديم ومع ذلك لم تسلم هذه الحضارة من الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، فالحضارة التي توفر للإنسان سعادة هي الحضارة التي تقترن بالأمن والسلم.
البعد الثالث: العدالة، الحضارة هي مصدر العدالة، يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل: 90]، وبما أن الحضارة البشرية تحتاج إلى أمن وتحتاج إلى عدالة، فإن السبيل لتوفير الأمن والعدالة هو القانون الصارم، وبدون قانون صارم لا يمكن أن يتحقق أمن أو عدالة ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179] من هنا تبدو الحاجة إلى الدين، حاجة المجتمع البشري للدين في حاجته إلى القانون، لأن المجتمع البشري يحتاج إلى الأمن ويحتاج إلى العدالة، والأمن والعدالة يتوقف على القانون الصارم، والدين يتكفل بتحقيق القانون الصارم الذي يحقق الأمن والعدالة؟
البعد الرابع: القيم الأخلاقية والرصيد الروحي، حضارة بلا قيم هي حضارة ذئاب، حضارة مجتمعات طبقية، حضارة لا توفر للإنسان سعادة واطمئنان ما لم تقم على قيم خلقية، وهذه القيم الخلقية يجمعها القرآن الكريم في كلمة الإيثار ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الحشر: 9]، ويعبر عنها أحياناً بالإحسان ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90] أو يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، ويعبر عنها أحياناً القرآن الكريم بالأخوة عندما يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، القيم الخلقية كلها تتلخص في كلمة واحدة وهي العطاء الصادق، أي أن تعطي للبشرية عطاء صادقاً لا بهدف الألقاب ولا بهدف مادي ولا بهدف التعالي بل بهدف صادق، العطاء الصادق هو الميزان في القيم الخلقية وهذا ما يربي القرآن معتنقيه وأتباعه عليه ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾.
إذاً نحن لا نريد أي حضارة، نريد حضارة قائمة على القيم الخُلقية، قائمة على العطاء الصادق وعلى الرصيد الروحي، والإنسان إذا لم يمتلك رصيد روحي يعبث بالآخرين ويطغى عليهم، كما نرى الآن المجتمع البشري وهو يعيش زمن الحضارة والتألق إلا أن كثير من المجتمعات تعيش في ألوان من الغنى والترف، ومجتمعات أفريقية تعيش تحت خط الفقر بدرجات، فلماذا الحضارة البشرية اليوم لم تستطع أن تنقذ الملايين الذين يعيشون تحت خط الفقر ليعيشوا حياة إنسانية كريمة!؟ لأن هذه الحضارة التي نحن مولعون بها ومشرئبون لها لم تمتلك الأبعاد كلها، لم تمتلك بعد الأمن ولم تمتلك بعد العدالة، ولم تمتلك بعد القيم الخلقية، ولم تمتلك بعد الرصيد الروحي، فهذه الأبعاد ضرورية لبناء الحضارة، والرصيد الروحي لا يتوفر عليه الإنسان بدون علاقة بينه وبين مبدئه وخالقه ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، أكثر الأمراض فتكاً للبشرية الآن هي الكآبة والقلق، وأكثر الأمراض في عصرنا الحاضر عصر التكنلوجيا وعصر الفضاء هي مرض الكآبة والقلق، فكيف تعالج الحضارة هذين المرضين؟ عندنا مدارس في علم النفس كالمدرسة الوظيفية، المدرسة السلوكية، المدرسة التحليلية، والمدرسة الاستبطانية، ولكن كل هذه المدارس لم تستطع أن تصل إلى علاج الإنسان نفسه من مرض الكآبة ومرض القلق، وعلاج الإنسان من مرض الكآبة والقلق بامتلاك الرصيد الروحي، وامتلاك الرصيد الروحي بالتعلق بالمبدأ تبارك وتعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2].
إذاً ماذا قدم الدين في مقابل ما قدمت الحضارة؟ الدين يقدم القانون الذي يوفر الأمن والعدالة، الدين يقدم الدوافع المحركة نحو القيم الخلقية التي تبني حضارة الإنسان، الدين يوفر الرصيد الروحي الذي يتخلص به الإنسان من مرض الكآبة والقلق، هذا الذي قدمه الدين للحضارة الإنسانية.
الجواب الثاني: نحن نقتصر دائما في تحليلنا للشخصيات على العطاء المادي، كعطاء نيوتن وآينشتاين، صحيح هؤلاء خدموا البشرية ويُجزون على خدماتهم إذا كان العطاء عطاء صادقاً، لا إشكال في ذلك ولكن هل ينحصر العطاء وهل ينحصر الإنتاج في الإنتاج المادي؟ لولا أولوا العزم من الرسل ولولا الأنبياء ولولا الأوصياء منذ يوم آدم إلى يومنا هذا لما وجدت بنية للقيم الخلقية ولما وجدت غرساً للقيم الخلقية، ولما وجدت بذرة للقيم الإنسانية، هؤلاء مسيرة الأنبياء دعمت القيم الخلقية والإنسانية لذلك ورد عن الرسول : ”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“.
الشخصية النافعة هي التي تكون لها عناصر ذاتية تحولها إلى رمز للمجتمع البشري سواء قدمت خدمات مادية واخترعت دواء أو جهاز أو ما اخترعت، إذن بالنتيجة إذا امتلكت الشخصية عناصر ذاتية جعلتها رمزاً للبشرية في عدة مجالات وفي عدة حقول فهي شخصية عبقرية وعظيمة وتستحق الإجلال والإكبار، وهذا ما نقرأه في شخصية فاطمة الزهراء .
ففي مجال العفة فالزهراء رمز للعفة والطهارة، يقول لها الرسول : ”بنية فاطمة ما هو خير للمرأة؟ قالت: أن لا ترى الرجل ولا الرجل يراها“ أي لا ترى الرجل برؤية تثيرها ولا يراها الرجل برؤية تثيره.
وفي مجال العلاقة الزوجية تضرب لنا الزهراء المثل في صِدق العلاقة بين الزوج وزوجته، وفي عمق العلاقة بين الزوجين، الإمام أمير المؤمنين يحكي عن الزهراء: ”والله ما أغضبتني قط، ولا خالفت لي أمراً قط، وما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر قط حتى قبضها الله إليه“ وهي التي قالت للإمام أمير المؤمنين علي في أوقات احتضارها وشهادتها: ”أبا الحسن هل وجدتني كاذبة أو خاطئة أو خالفتك منذ عاشرتك؟ قال: حاشى لله أنتِ أبر وأتقى من أن أوبخكِ“.
الزهراء في مجال الرصيد الروحي ومجال العلاقة مع الله والعبادة، يقول ابنها الإمام الحسن الزكي: ”ما رأيت أعبد من أمي فاطمة، كانت إذا قامت إلا صلاتها لم تنفتل من محرابها حتى تتورم قدماها من طول الوقوف بين يدي ربها، وما رأيتها دعت لنفسها قط، وإنما تدعو للمؤمنين والمؤمنات“ تعيش الخُلق حتى في العبادة، والعطاء الصادق في المحراب، تعيش الرأفة والرحمة بالمجتمع البشري حتى في مناجاتها وابتهالاتها، ”وما رأيتها دعت لنفسها قط، أقول لها أماه فاطمة: لم لا تدعين لنفسك؟ فتقول: بني حسن، الجار ثم الدار“.
يقول الإمام أمير المؤمنين إن فاطمة كسحت البيت حتى أغبرت ثيابها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، فأصابها من ذلك ضعف شديد فقلت لها: هلا ذهبت إلى أبيك وطلبت منه خادماً فذهبت إليه، وهي ابنة رئيس الدولة وهي التي تكنس البيت وهي التي تطحن الرحى وتغسل وتطبخ وكله تقوم به بنفسها وهي ابنة رئيس الدولة الذي بيده الثروة كلها ومقاليد الثروة أقبلت إلى أبيها فوجدت معه حُداثاً رجعت إلى البيت، يقول الإمام علي: فلما جن الليل دخل علينا رسول الله ونحن في منامنا متلحفين فأردنا أن نقوم فقال: على
مكانكما اجلسا. فجلسنا، فجلس عندنا وقال: بنية فاطمة ما كان عندك إذ أتيتِ؟ فخجلت واستحت. فقلت له: إن ابنتك كسحت وطبخت وطحنت و… حتى أصابها ضعف شديد فجاءت تطلب خادماً. فقال: يا علي ويا فاطمة ألا أعلمكما شيئاً هو خير لكما من الخادم؟ قلنا: بلى، قال: إذا قمتما إلى منامكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمداه ثلاثاً وثلاثين، وكبراه أربعاً وثلاثين، فإنه خير لكما من الخادم.
فاطمة في مجال العطاء والإنفاق تخبز الأقراص الأربعة قرصاً لها وقرصاً لعلي وقرصاً للحسن وقرصاً للحسين ليتناولوها على مائدة الإفطار فيأتي المسكين واليتيم والأسير فتبادر فاطمة لتتصدق بقرصها على المسكين واليتيم والأسير ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا «7» وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا «8» إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا «9»﴾ [الإنسان: 7 – 9].
إذن الحضارة الإنسانية تحتاج إلى نماذج راقية تقتدي بها، الحضارة الإنسانية تحتاج إلى قدوات صالحة تهتدي بها ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90] ومن هؤلاء الذين تحتاجهم الحضارة الإنسانية لتقتدي بهم وتستقي منهم القيم والتعاليم فاطمة، وما أدراك ما فاطمة، فاطمة أول ثائر في الإسلام وأول من أسس حركة المعارضة في الإسلام، فاطمة الزهراء عندما صدحت بمفاهيمها ومبادئها، فاطمة رمز لمجموعة من القيم، أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة ومهبط الروح الأمين والطبن بأمور الدنيا والدين ألا ذلك وهو الخسران المبين وماذا نقموا من أبي الحسن نقموا منه والله نكير سيفه وقلة مبالاته بحتفه وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمره في ذات الله واجتهاد في أمر الله، هكذا عكست الزهراء في ذلك العمر القصير قيمها ومبادئها العظيمة إلى أن عاشت حقبتها الأخيرة نحيفة الجسم، نحيلة، مصفرة اللون، حزينة كئيبة، ولا تُرى بسمة على وجهها، تبكي الليل وتبكي النهار لفقد أبيها المصطفى.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا في موقع التلغرام: النعيم نيوز
و لمتابعتنا على موقع فيسبوك يرجى الضغط أيضا على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
و لا تنسى أيضا الاشتراك في قناتنا على موقع الانستغرام: النعيم نيوز