أقيمت صلاة الجمعة المباركة، بمسجد جنات النعيم في كربلاء المقدسة، بإمامة الشيخ الدكتور جعفر الربيعي.
وفيما يلي نص خطبتي صلاة الجمعة، وتابعتهما “النعيم نيوز”:
الخطبة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. (سورة القصص، الآية:83)
تمهيد
لقد أودع الله سبحانه وتعالى في الإنسان ميولاً ورغبات، وأودع فيه قوى باطنيّة كالشهوة والغضب، لأجل الحفاظ على النوع الإنسانيّ واستمرار البشريّة، ولأجل محافظة الإنسان على نفسه والدفاع عنها. لكن قد يستخدم الإنسان هذه القوى بشكل إفراطيّ، وقد يفرّط بها فيبتعد عن جادّة الحقّ والصواب، وهي الحدّ الوسط الّذي ينبغي للإنسان أن يسير عليه، بحيث لا يغفل عند استخدامه لهذه القوى عن الهدف الذي وجدت لأجله.
فبعض الناس يحبّ المال حبّاً جمّاً، وبعض لا همّ له سوى السعي خلف الجمال، وآخرون يسعون نحو الجاه والمنصب والسمعة، ويطلبون الوجاهة في هذه الدنيا، ويحبّون أن يكونوا موضع احترام الناس وتقديرهم، ومنهم من يريد أن ينحني أمامه الناس ـ كفرعون ـ ولا يحبّ أن تجري الأمور إلّا من خلاله، وعبره، ويطلب الناس حوائجهم منه هو بالذات، فهو يرى أنّه أرفع شأناً من الجميع، يجب أن يكون الكلام له فقط، وصدر المجلس له فقط، حتّى لو كان في الواقع أقلّ الناس فهماً ودراية. هذا الشخص الراغب للوصول إلى أعلى المراتب والمقامات طلباً للرِفعة يُسمَّى بمحبّ الجاه والسلطة.
خطورة حبّ الجاه: إنّ هذه الرذيلة تُعتبر مصدراً لكثير من المفاسد:
1- فهي من ناحية تبعد صاحبها عن الخالق سبحانه.
2- ومن ناحية أخرى تبعده عن الناس من حيث لا يشعر.
3- وصاحب هذه الرذيلة يتوخّى شتّى الطرق للوصول إلى مراده وتحقيق أهدافه وإشباع ميوله ورغباته، مقتحماً بها المهالك والمخاطر..
نعم، هذه الصفة هي عند الصغار والشباب اليافعين قليلة وغير بارزة، لكن كلّما تقدّم الإنسان في السنّ قليلاً كلّما كبرت وازدادت وتأصّلت، وقد ترافق الإنسان طيلة حياته حتّى سكرات الموت، وتتلاشى كلّ قوى الإنسان وتضعف كلّ رغباته وميوله إلّا هذه الرذيلة ـ حبّ الجاه ـ فإنّها تقوى وتشتدّ، فقد اشتهر أنَّ “آخر ما يخرج من قلوب الصدّيقين حبّ الجاه”.
السامريّ والعِجل:
عندما نقرأ سورة طه في القرآن الكريم نجد قصّة النبيّ موسى عليه السلام. وقد تعرّض القرآن لقصّة هذا النبيّ العظيم عدّة مرّات، ذاكراً ما جرى له مع بني إسرائيل ومع فرعون، وفي مواضع متعدّدة من سُوَرِه، لكن في هذه السورة بالخصوص تعرّض لمقطع مهمّ من فصول ومواقف بني إسرائيل، فبعد أن أنجاهم الله من عدوّهم، وبعد مواعدتهم من جانب الطور الأيمن وإنزال المنّ والسلوى عليهم، ختم بقصّة السامريّ وكيف استطاع هذا الرجل أن يضلّ قوم موسى عليه السلام ليعبدوا العجل بدل الواحد الأحد. تقول الآيات الكريمة: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ). ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً﴾. لمّا وعد الله موسى أن ينزّل عليه التوراة والألواح إلى ثلاثين يوماً، أخبر بني إسرائيل بذلك، وذهب إلى الطور وخلّف أخاه هارون على قومه.
فلمّا مضى ثلاثون يوماً ولم يرجع موسى عليه السلام إليهم عصوا وأرادوا أن يقتلوا هارون عليه السلام قائلين: إنّ موسى كذب وهرب منّا، بعد أن جاءهم إبليس في صورة رجل فقال لهم: إنّ موسى قد هرب منكم ولا يرجع إليكم فاجمعوا حليّكم حتّى اتّخذ لكم إلهاً تعبدونه. وكان السامريّ ـ على بعض الروايات ـ من خيار أصحاب موسى عليه السلام، وقد شاهد جبرائيل يوم أغرق الله عزّ وجلّ فرعون في اليمّ، وأخذ من أثر فرس جبرائيل تراباً احتفظ به.
وبعد أن قدّموا الحليّ الّتي معهم ـ وقيل إنّها من بقايا حليّ آل فرعون وقيل الأقباط ـ صنع لهم السامريّ العجل، ورمى الأثر في جوف العجل فصدر منه الخوار، عندها سجد له بنو إسرائيل.
سؤال: ما الذي دعا السامريّ إلى هذا الفعل؟
الجواب: ما قاله السامريّ لنبيّ الله موسى عليه السلام، عندما أخبره بما رأى وبما فعل، إذ ختم كلامه ﴿كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾.
عبر من القصّة:
إنّ في هذه القصّة العديد من العبر، نذكر منها:
1ـ أنّ نبيّ الله موسى عليه السلام عندما عاد إلى قومه غضبان ممّا أقدموا عليه، لم تأخذه في الله لومة لائم، ووقف أمامهم وهم آلاف يهدّدهم ويتوعّدهم ويصرخ في وجوههم غضباً لله سبحانه!
2ـ لقد بدأ نبيّ الله بأخيه هارون، مشيراً إلى قومه أنّ هذا الأمر الذي قاموا به ارتداد وكفر ولا بدّ من معاقبة الفاعل ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾5.
وعندها بيّن له نبيّ الله هارون عليه السلام أنّ القوم استضعفوه، ولم يسمعوا كلامه وقد تصدّى لهم لكنّهم كادوا يقتلونه.
3ـ فعلُ السامريّ الّذي سوّلت له نفسه هذا العمل وهذا الأمر، لم يكن إلا من حبّ الجاه والسلطة، ولكي يتزعّم على القوم بعد نبيّ الله موسى عليه السلام. فقد كان يترقّب الفرصة لكي يُظهر ما في نفسه، وأدّت به هذه الرذيلة ليضلّ قوماً بأسرهم إرضاءً لرغبته وميوله.
وهكذا تصل هذه الرذيلة بصاحبها إلى أخسّ المواقف ليرتكب أعظم الرذائل إرضاءً لها، وهذا ما حصل مع فرعون ومع قارون من بني إسرائيل.
عاقبة السامريّ:
يُنقل أنّ السامريّ قد ابتليَ ـ بعد دعاء النبيّ موسى عليه السلام ـ بعرض نفسيّ ووسواس شديد بحيث صار يخاف من جميع الناس، فإذا ما اقترب منه أحد صاح به “لا مساس” ﴿قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ﴾. فالّذي كان يطمع أن يستحوذ على قلوب الناس والوصول للمنصب والرئاسة كانت عاقبته أن أفرده الله من المجتمع وانزوى عن الناس قاطبة وأصبح يخاف من كلّ واحد منهم.
حبّ الجاه وإفساده للعقيدة
لقد وردت الروايات في هذه الرذيلة تارة بعبارة حبّ الجاه، وأخرى بعبارة حبّ الشرف، وثالثة بحبّ الرئاسة. ففي الحديث عن أبي الحسن عليه السلام: “ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرّق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من الرئاسة”. وتأسيساً على ذلك، فإنّ حبّ الجاه والثروة وعبادة المقام أمور تمثّل عناصر خطيرة على مستوى تخريب الإيمان في أعماق النفس، تماماً كما هو الحال في علاقة الذئب وزريبة الغنم. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم في معرض حديثه عن الجذور الأصليّة للذنوب قال: “أوّل ما عُصيَ الله تبارك وتعالى بستّ خصال: حبّ الدنيا وحبّ الرئاسة وحبّ الطعام وحبّ النساء وحبّ النوم والراحة”.
طلب الرئاسة بحقّ:
قد يخطر على بال بعض الناس من خلال ما سقناه من ذمّ طلب الرئاسة أنّها مذمومة مطلقاً، وهذا ما لا نقصده حيث إنّها قد تكون محمودة إن كان فيها خدمة الناس والدعوة لله تعالى، وهذا ما جرى مع نبيّ الله يوسف عليه السلام إذ قال لحاكم مصر ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ ، فلو كان طلب الرئاسة مرفوضاً مطلقاً لما صدر مثل هذا الطلب عن نبيّ معصوم. ففي الواقع إنّ الذين يطلبون الرئاسة لأغراض اجتماعية وإنسانية، فيها رضى لله تعالى، يخدمون الأهداف الإلهيّة ومن ضمنها إقامة حكم الله على الأرض ويساهمون في تكامل الإنسانيّة.
لذلك نجد الإمام عليّاً عليه السلام لا رغبة له في الحكومة والرئاسة إلّا لأنّها أداء للتكليف الإلهيّ، ولا تساوي عنده عفطة عنز، ولا شسع نعل، إلّا أن يقيم حقّاً ويعين مظلوماً، وهو القائل: “أما والّذي برأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء ألّا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها”. وقال عليه السلام أيضاً لابن عبّاس حين رآه يصلح نعله: ما قيمة هذه النعل؟ فقال: “لا قيمة لها، قال عليه السلام: والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً”.
أبرز علامات محبّ الجاه:
إن حبّ الجاه والمقام يظهر من خلال حركات الإنسان وكلماته وسلوكه، فكلّ ما يقوم به من عملِ خيرٍ فهو يرغب في الإعلان عنه لتكون له المنزلة عند الناس. لذلك نجد محبّ الجاه غالباً ما يتحرّك في سلوكه الأخلاقيّ نحو الرياء لأنّ حبّ الجاه لا يمكن إشباعه إلّا بالرياء، بل قد ينسب الخير إلى نفسه وإن لم يفعل منه شيئاً، ويحبّ أن يُحمد عليه، قال تعالى: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ لأنّ الهدف الشهرة والجاه والسمعة بأيّ طريق. ومن يحبّ أن يُمدح بما لا يقوم به فضلاً عما يقوم به، فهو لا يريد التقرّب إلى الله، ولا خدمة الناس والمجتمع، أكثر من خدمة نفسه وإشباع ميوله.
وهذا الشخص لا يتقبّل النقد والتوجيه أبداً، وليس مستعدّاً لسماع النصيحة والموعظة، ونموذج فرعون واضح في هذا المراد إذ قال لقومه: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾.
علاج حبّ الجاه:
فمن وجد في نفسه ـ وهو أعلم بها من غيره ـ حبّ الجاه والظهور لا بدّ له وقبل أن يفوته قطار الكمال الإلهيّ أن يسعى جاهداً لمعالجة هذه الرذيلة بالأمور التالية:
1ـ أن يتعرّف إلى سيّئات وعواقب هذه الرذيلة الدنيويّة والأخرويّة، فهذه الرذيلة تُبعد الإنسان عن الله سبحانه، كما وتُبعده عن الناس أيضاً، وهي ستجرّ صاحبها إلى الرياء والكبر والإفساد. وغير ذلك ممّا تحدثنا عنه.
2ـ أن يطالع قصص الماضين من الفراعنة وقارون والسامريّ، وبعض الملوك كيف كانت عاقبة أمورهم في الدنيا، وما ستكون في الآخرة، عسى أن يكون في قصصهم عبرة، ورادع عن هذه الرذيلة.
3ـ أن يضع الشخص نفسه في حالة يُميت بها (حبّ الجاه)، بأن يجلس في المجالس العامّة ومع الأفراد العادّيين، لا مع الشخصيّات اللّامعة والمرموقة، وأن يلبس متوسّط الثياب، ويأكل من متوسّط الطعام. وهكذا بالنسبة للسيارة والمنزل وسائر الاحتياجات الشخصيّة والعائليّة. وقد اشتهر هذا البيت من الشعر:
حبّ التناهي شطط خير الأمور الوسط
وبهذا الطريق الوسط يقرب من الفقراء، ولا يكون هناك فرق شاسع بينه وبينهم، وبذلك يكون قد رحمهم ورحم شعورهم وأحاسيسهم، وفي نفس الوقت يكون قد ابتعد عن الجاه والمنصب الذي يدعوه ميله ورغبته إليه فيميته ويتخلّص منه.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: (هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الَّدِينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33).
المستقبل للإسلام:
الآية المباركة تزف البُشرى للمسلمين باستيعاب الإِسلام العالم بأسره، وتكمل ما أشارت إِليه ـ آنفاً ـ أن أعداء الإِسلام لن يفلحوا في محاولاتهم ومناوآتهم بوجه الإسلام أبداً، وتقول بصراحة: (هو الذي أرسَل رسولَه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون). والمقصود من الهدى هو الدلائل الواضحة، والبراهين اللائحة الجليّة التي وُجِدَتْ في الدين الإسلامي.
وأمّا المراد من دين الحق، فهو هذا الدين الذي أُصوله حقّة وفروعه حقّة أيضاً، وكل ما فيه من تاريخ وبراهين ونتائج حق، ولا شك أن الدين الذي محتواه حق، ودلائله وبراهينه حقّة، وتأريخه حق جلي، لابدّ أن يظهر على جميع الأديان. وبمرور الزمان وتقدم العلم وسهولة الارتباطات، فإن الواقع سيكشف وجهه ويطلعه من وراء سُدُلِ الإِعلام المضللة، وستزول كل العقبات والموانع والسدود. إن يوم الظهور هل هو انتصار عسكري أو هو انتصار فكري.
هناك كلام بين المفسّرين في كيفية ظهور الدين الإِسلامي على سائر الأديان، وهذا الظهور أو الانتصار في أيّ شكل هو؟ قال بعض المفسّرين: هذا الانتصار انتصار منطقي استدلالي فحسب، ويقولون بأن هذا الموضوع حاصل فعلا، لأنّ الإِسلام من حيث منطقهُ ودلائله لا يقاس به دين آخر. غير أنّ التحقيق في موارد استعمال مادة «الإظهار» في قوله تعالى: (ليُظهره على الدين كله) يكشف أنّ هذه المادة غالباً ما تستعمل في القدرة الظاهرية والغلبة المادية، كما جاء في قصّة أصحاب الكهف: (إنّهم إن يظهروا عليكم يرجموكم) وكما نقرأ في شأن المشركين (كيف وإِن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمّة). فمن البديهي أنّ الغلبة في مثل هذه الموارد ليست غلبة منطقية، بل هي غلبة عينية وفعلية، وعلى كل حال فمن الأفضل والأكثر صحة أن نعتقد بأنّ هذا الظهور والغلب ظهور مطلق ـ من جميع الجوانب ـ لأنّه ينسجم ومفهوم الآية التي هي مطلقة من جميع الجهات أيضاً، فيكون المعنى أنّه سيأتي يوم ينتصر فيه الإِسلام انتصاراً منطقياً وانتصاراً ظاهرياً، في امتداد سيطرته ونفوذه المطلق، وحكومته العامّة على جميع الأديان، وسيجعل جميع الأديان تحت شعاعه.
الدين ومنطق العقل:
1- أي فكر الآن لا يفرض بالقوة إلا إذا كان الفكر فيه خلل وإلا إذا كان الفكر لا يوجد فيه خلل لا يحتاج أن تفرضه بالقوة أنت كل فكر لا يفرض بالقوة على المجتمع الإنساني إلا إذا كان في الفكر خلل يعوض نقصه بفرضه بالقوة بينما الفكر الإسلامي هو من جهة فكر كامل لقول القرآن الكريم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ ومن جهة أخرى الفكر الإسلامي فكر متطابق مع الفطرة السليمة القرآن الكريم يقول: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فطرت اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ بما أن الدين والفكر الإسلامي فكر كامل ومتطابق مع الفطرة الإنسانية السليمة فلماذا يفرض بالقوة؟!
2- لأنه الدين شيء لا يمكن الإكراه عليه الدين من الأمور الوجدانية لا من الأمور الخارجية الصلاة الحج هذا أمر خارجي لكن هذا ليس هو الدين هذا مظهر للدين الصلاة مظهر للدين الحج مظهر للدين ليس هذا هو الدين، الدين أمر وجداني موطنه القلب لأنه القلب هي المنطقة التي تكون وعاء للأمور الوجدانية إذاً الدين مجموعة من الاعتقادات ومجموعة من الأمور الوجدانية موطنها القلب والقلب لا يمكن السيطرة عليه من أي قوة في العالم.
ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”لو ضربت خيشوم المؤمن بالسيف على أَن يبغضني ما أَبغضني، ولو ضربت خيشوم المنافق على أَن يحبني ما أَحبني“ السيطرة على القلب غير ممكنة لأي إنسان.
3- الإكراه على الدين يخلق أثر معاكس للدين كيف؟! يقول علماء الكلام: نقض الهدف يتنافى مع الحكمة أنت إذا حكيم كل إنسان حكيم يرسم لنفسه أهداف فإذا رسم لنفسه أهداف لا يقوم بعمل يتناقض مع أهدافه لأنه نقض الهدف لا يجتمع مع الحكمة فيكف بالله تبارك وتعالى وهو الحكيم المطلق بما أن الله حكيم فقد أنزل دين والهدف من إنزال هذا الدين أن يتفاعل الناس معه تفاعل قلبي وسلوكي فإذا كان الهدف من إنزال الدين التفاعل معه في مرحلة السلوك فكيف يفرضه بالقوة
القرآن وظهور المهدي:
إنّ الآية ـ محل البحث ـ عينها وبالألفاظ ذاتها، وردت في سورة الصف، كما وردت في أُخريات سورة الفتح باختلاف يسير. والآية تخبر عن حدث مُهِمّ كبير استدعت أهميته هذه أن تتكرر الآية في القرآن، وهذا الحدث الذي أخبرت عنه الآية هو استيعابُ الإِسلام للعالم بأسرهِ. وبالرغم من أن بعض المفسّرين فسر الانتصار ـ في الآية محل البحث ـ انتصاراً في منطقة معينة ومحدودة، وقد حدث ذلك فعلا في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو ما بعده من العصور للإِسلام والمسلمين، إلاّ أنّه مع ملاحظة أن الآية مطلقة لا قيد فيها لا شرط، فلا دليل على تحديد المعنى، فمفهوم الآية انتصار الإِسلام كليّاً ـ ومن جميع الجهات ـ على جميع الأديان، ومعنى هذا الكلام أنّ الإِسلام سيُهيمن على الكرة الأرضية عامّة، وسينتصر على جميع العالم. ولا شك أن هذا الأمر لم يتحقّق في الوقت الحاضر، لكنّنا ندري أن هذا وعد من قبل الله حتمي وأنّه سيتحقق تدريجاً، فسرعة انتشار الإِسلام وتقدمه في العالم، والاعتراف الرسمي به من قبل الدول الأوروبية المختلفة ونفوذه السريع في أفريقيا وأمريكا، وإعلان كثير من العلماء والمفكرين اعتناقهم الإِسلام، كل ذلك يشير إِلى أنّ الإِسلام أخذ باستيعاب العالم. إلاّ أنّه طبقاً للرّوايات المختلفة الواردة في المصادر الإِسلامية، فإنّ هذا الموضوع إِنّما يتحقق عند ظهور المهدي(عليه السلام) فيجعل الإِسلام عالمياً. ينقل العلامة الشيخ الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) الآية محل البحث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «إِنّ ذلك يكون عند خروج المهدي، فلا يبقى أحدٌ إلاّ أقرّ بمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)».
كما ورد في التّفسير ذاته عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا بر إلاّ أدخله الله كلمة الإِسلام». كما أن الشيخ الصدوق رضوان الله عليه روى عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية ـ في كتابه إِكمال الدين ـ أنّه قال: «والله ما نزل تأويلها بعدُ، ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم، فإِذا خرج القائم لم يبق كافر بالله العظيم».
الاشكال:
إِلاّ أنّ المدهش أن كاتب «المنار» هنا لم يكتف برفض هذا التّفسير المذكور آنفاً، بل ناقش الأحاديث في المهدي(عليه السلام)، وحاول أن ينكر بتعصبه الخاص جميع الأحاديث الواردة في شأنه، ولم يألُ جهداً في التذرع بما لديه من الحجج الواهية ليقول: إِنّ هذه الأحاديث لا يمكن قبولها بحال، ويزعم أنّ الاعتقاد بوجود المهدي من أفكار الشيعة، ومعتقداتهم، أو معتقدات من يميل إِلى التشيّع. ثمّ بعد هذا كلّه يرى صاحب «المنار» أنّ الاعتقاد بوجود المهدي مدعاة للتخلف والرّكود! ومن هنا نرى أنّه لابدّ أن نعالج ـ ولو باقتضاب ـ الرّوايات الواردة في شأن المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» وآثار هذا الاعتقاد في تقدم المجتمع الإِسلامي، ومواجهة الظلم والفساد، ليُعلم أن التعصب اذا دخل من باب خرج العلم والمعرفة من باب آخر. ومع أنّ صاحب المنار له باع طويلة في العلوم والمعارف الإِسلامية، إلاّ أنّه لنقطة الضعف التي ابتلي بها «التعصب الشديد» يقلب بعض الحقائق الجليّة وينكرها تماماً. أن نراجع النصوص الإِسلامية الأصيلة مباشرة وأن نفهم الإِنتظار من لسان رواياتها المختلفة، حتى نطّلع على الهدف الأصليّ منها!
الرّوايات الشّريفة:
1 ـ سأل بعضهم الإِمام الصّادق(عليه السلام): ما تقول في رجل موال للأئمّة (عليهم السلام) وينتظر ظهور حكومة الحق، ثمّ يموت وهو على هذه الحال؟!
فقال الإِمام الصادق (عليه السلام): هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه. ثمّ سكت هنيئة، ثمّ قال: هو كمن كان مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذا المضمون نفسه ورد في روايات متعددة بتعابير مختلفة:
2 ـ إِذ جاء في بعضها: بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله.
3 ـ وفي بعضها: كمن قارع مع رسول الله بسيفه.
4 ـ وفي بعضها: بمنزلة من كان قاعداً تحت لواء القائم.
5 ـ وفي بعضها: بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله.
6 ـ وفي بعضها: بمنزلة من اسُتشهد مع رسول الله.
الإِنتظار يعنى الاستعداد الكامل:
اِذا كنتُ ظالماً مجرماً، فكيف يتسنى لي أن أنتظر من سيفه متعطش لدماء الظالمين؟! وإِذا كنتُ ملوّثاً غير نقي فكيف أنتظر ثورة يحرق لهبها الملوّثين؟! والجيش الذي ينتظر الجهاد الكبير يقوم برفع معنويات جنوده ويلهمهم روح الثورة، ويصلح نقاط الضعف فيهم إِن وجدت، لأنّ كيفية الإِنتظار تتناسب دائماً والهدف الذي نحن في انتظاره.
1 ـ انتظار قدوم أحد المسافرين من سفره.
2 ـ انتظار عودة حبيب عزيز جداً.
3 ـ انتظار حلول فصل اقتطاف الثمار وجني المحاصيل.
كل من هذه الأنواع من الإِنتظار مقرون بنوع من الاستعداد، ففي أحدها ينبغي تهيئة البيت ووسائل التكريم، وفي الآخر ما ينبغي أن يقتطف به من الادوات والسلال وهكذا … والآن سنتصوّر كيف يكون انتظار ظهور مصلح عالمي كبير وكيف نكون في انتظار ثورة وتغيير وتحول واسع لم يشهد تأريخ الإِنسانية مثيلا له؟
الثورة التي ليست كسائر الثورات السابقة، إذ هي غير محدودة بمنطقة ما، بل هي عامّة وللجميع، وتشمل جميع شؤون الحياة والناس، فهي ثورة سياسية، ثقافية، اقتصادية، أخلاقية.
الحكمة الأُولى، بناء الشّخصية الفرديّة:
إِنّ بناء الشّخصية ـ قبل كل شيء ـ بحاجة إِلى عناصر معدّة ذات قيم إِنسانية، ليمكن للفرد أن يتحمل العبء الثقيل الإِصلاحي للعالم، وهذا الأمر بحاجة ـ أوّلا ـ إِلى الارتقاء الفكري والعلمي والاستعداد الروحي، لتطبيق ذلك المنهج العظيم. فالتحجر، وضيق النظر والحسد، والاختلافات الصبيانية، وكل نفاق بشكل عام أو تفرقة لا تنسجم ومكانة المنتظرين الواقعيين.
والمسألة المهمّة ـ هنا ـ أنّ المنتظر الواقعي لا يمكنه أن يقف موقف المتفرج ممّا أشرنا إِليه آنفاً، بل لابدّ أن يقف في الصف الآخر، أي صف الثائرين المصلحين، فالإِيمان بالنتائج وما يؤول إليه هذا التحول، لا يسمح له أبداً أن يكون في صف «المثبطين» المتقاعسين، بل يكون في صف المخلصين المصلحين، ويكون عمله خالصاً وروحه أكثر نقاءً، وأن يكون شهماً عارفاً معرفةً كافية بالأُمور.
الحكمة الثّانية، التعاون الاجتماعي:
إِنّ المنتظرين بحق في الوقت الذي ينبغي عليهم أن يهتمّوا ببناء «شخصيتهم» عليهم، أن يراقبوا أحوال الآخرين، وأن يجدّوا في إصلاحهم جدّهم في إِصلاح ذاتهم… لأنّ المنهج العظيم الذي ينتظرونه ليس منهجاً فرديّاً، بل هو منهج ينبغي أن تشترك فيه جميع العناصر الثورية، وأن يكون العمل جماعياً عاماً، وأن تتسقَ المساعي والجهود بشكل يتناسب وتلك الثورة العالمية هم في انتظارها.
الحكمة الثّالثة، المنتظرون بحق لا يذوبون في المحيط الفاسد:
إِنّ الأثر المهم الآخر للإِنتظار هو عدم ذوبان المنتظرين في المحيط الفاسد، وعدم الانقياد وراء المغريات والتلوّث بها أبداً. وتوضيح ذلك: أنّه حين يعم الفساد المجتمع، أو تكون الأغلبية الساحقة منه فاسدة، فقد يقع الإِنسان النقي الطاهر في مأزق نفسي، أو بتعبير آخر: في طريق مسدود «لليأس من الإِصلاحات التي يتوخّاها».
وربّما يتصور «المنتظرون» أنّه لا مجال للإِصلاح، وأن السعي والجدّ من أجل البقاء على «النقاء» والطهارة وعدم التلوّث، كل ذلك لا طائل تحته، أو لا جدوى منه، فهذا اليأس أو الفشل قد يجرّ الإِنسان نحو الفساد والاصطباغ بصبغة المجتمع الفساد، فلا يستطيع المنتظرون عندئذ أن يحافظوا على أنفسهم باعتبارهم أقليّة صالحة بين أكثرية طالحة، وأنّهم سيفتضحون إِن أصروا على مواصلة طريقهم وينكشفون لأنّهم ليسوا على شاكلة الجماعة.
والشيء الوحيد الذي ينعشُ فيهم الأمل ويدعوهم الى المقاومة والتجلد وعدم الذّوبان والانحلال في المحيط الفاسد، هو رجاؤهم بالإصلاح النهائي”.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا في موقع التلغرام: النعيم نيوز
ولمتابعتنا على موقع فيسبوك يرجى الضغط أيضا على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
ولا تنسى أيضا الاشتراك في قناتنا على موقع الانستغرام: النعيم نيوز