اخبار اسلامية
أخر الأخبار

بإمامة الشيخ عادل الساعدي صلاة الجمعة المباركة في جامع الرحمن ببغداد

أقيمت صلاة الجمعة المباركة في جامع الرحمن ببغداد، بإمامة الشيخ عادل الساعدي 

 

 

الخطبة الأولى لصلاة  الجمعة كانت بعنوان: الآخرة دار القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله بجميع محامده كلها على نعمه كلها ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، اللهم صل على نبيك المصطفى محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين أعلام الدين وحججِ رب العالمين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى يوم الدين .

عباد الله ؛ أوصيكم ونفسي بتقوى الله ولزوم أمره ، وأحذركم الدنيا فإنها دارٌ بالبلاء محفوفة، وبالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزالها، أحوال مختلفة، وتارات متصرفة، العيش فيها مذموم، والأمان منها معدوم، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة، ترميهم بسهامها، وتفنيهم بحمامها، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون .

قال تبارك وتعالى { وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون} العنكبوت – ٦٤

الآخرة لغةً

الآخرةُ مؤنّث آخر على وزن فاعل ، مقابل الأوّل والمتقدّم .

جاء في العين :

الآخِرُ وَالآخِرَةُ : نَقيضُ المُتَقَدِّمُ وَالمُتَقَدِّمَةُ ، ومُقَدَّمُ الشَّيءِ ومُؤَخَّرُهُ .

كل إنسانٍ لابد أن يعرف ما يؤول إليه ، وأين مستقره ومنتهاه ، وليس من المعقول أنه لا يدرك إلى أن يمضي وإلى ما إليه ينتهي ، عادة الإنسان يتهيأ حتى في أي سفرٍ من أسفاره ، فيهتم باعداد اللوازم التي تسهل السفر وما تقتضيه الرحلة وما يحتاجه المكان المقصود من أدوات وعدد وإمكانيات . كل هذه الإعدادات والاستعدادات في سفرٍ قد لا يدوم زمناً طويلا ، فمن الأولى أن ينتبه المؤمن ويستعد إلى سفرٍ يدوم ، لا رجعة فيه ، وعليه أن يختار مكاناً مريحاً ، وإلا فالسفر والمنتهى سيكون متعباً ومؤذياً له ، إن هذا السفر سفر الآخرة .

مشكلتنا الغفلة عما يراد بنا وإلى أين نتجه ، حتى أن أحدنا يتصرف كأنه خالدٌ في هذه الدنيا لا يغادرها ولا ينتقل منها ، فأغرتنا الدنيا وسحرنا فيها عيشها الزهيد ، فأنستنى الغفلةُ الآخرةَ وعيشها الدائم و يصف أمير المؤمنين أحوال الناس الذين يعرفون وكأنهم لا يعرفون لاهون عما يراد بهم ، يقول عليه السلام ” ما رأيتُ يقيناً أشبه بشكٍ لا يقين فيه مثل الموت” وهذا الموات أول محطات ومنازل الآخرة . لا يمكن لنا أن نطلق على الفندق الذي يستوطنه الإنسان أياماً وحتى أشهراً أنه دار المرئ رغم سكنه فيها ، ولمّا نسأل لِما ذاك ، يقال الدار فيها قرار واستقرار واستدامة ومقامة ، والفندق ليست فيه هذه الصفات ، والدنيا بطول سنينها التي يعيشها الإنسان لم يسمها الله في كتابه بأنها دار ، بل اسماها متاعُ ووصفها بالغرور ، أما الآخرة فأطلق عليها دار ووصفها بأوصاف مستحقيها دار المتقين أو دار الفاسقين لأنها مستقرُ كلاهما .

مقارنة الدنيا بالآخرة

يمكن أن نسأل عن قيمة الدنيا مقارنةً بالآخرة فما قيمتها وما حجمها ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما الدنيا في الآخرة إلا مِثْل ما يجعل أحدكم أُصْبُعَهُ في اليَمِّ، فلينظر بِمَ يَرْجع!» وفي حديث آخر روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: “ما أخَذَتِ الدُّنيا مِنَ الآخِرَةِ إلّاكَما أخَذَ مِخيَطٌ غُرِسَ فِي البَحرِ مِن مائِهِ”

سأل يزيد بن سلام رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله فَقالَ لَهُ – : أخبِرني لِمَ سُمِّيَتِ الآخِرَةُ آخِرَةً ؟

قالَ [ صلى الله عليه وآله ] : لِأَنَّها مُتَأَخِّرَةٌ تَجيءُ مِن بَعدِ الدُّنيا ، لا توصَفُ سِنينُها ، ولا تُحصى أيّامُها ، ولا يَموتُ سُكّانُها .

وورد عن الإمام عليّ عليه السلام : سُمِّيَتِ الآخِرَةُ آخِرَةً ؛ لِأَنَّ فيهَا الجَزاءَ وَالثَّوابَ .

لابد من معرفة الطريق

كل من يسلك طريقاً ، لا يسلكه حتى يعرف ما فيه ، فالآخرة طريقها محفوفٌ بالمخاطر والمكاره ، عكس أسفار الدنيا التي محفوفةٌ بالشهوات ، ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنه قال : ألا إنَّ الآخِرَةَ اليَومَ مُحَفَّفَةٌ بِالمَكارِهِ ، وإنَّ الدُّنيا مُحَفَّفَةٌ بالشَّهَوات

كونوا من أبناء الآخرة

أيها الأحبة ؛ كونوا من أبناء الآخرة وروادها تُفلِحوا ، ولا تأخذكم الدنيا فتفشلوا ، فما خصائص أبناء الآخرة ؟ :

1. الرغبة عن الدنيا والرغبة بالآخرة ، رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : خِيارُكُم عِندَ اللَّهِ أزهَدُكُم فِي الدُّنيا وأرغَبُكُم فِي الآخِرَةِ .

2. الوله بالآخرة ، ورد عن الإمام عليّ عليه السلام قال : طوبى لِمَن رَكِبَ الطَّريقَةَ الغَرّاءَ ولَزِمَ المَحَجَّةَ البَيضاءَ ، وتَوَلَّهَ بِالآخِرَةِ وأعرَضَ عَنِ الدُّنيا .

 

3. عدم التكبر ، قال تعالى { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } القصص ـ 83 ، ورد عن الامام علي (عليه السلام): إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها .

ما ينسي الإنسان عن الآخرة

طول الأمل . ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : إنَّ أخوَفَ ما أخافُ عَلى امَّتِيَ الهَوى وطُولُ الأَمَلِ ؛ أمَّا الهَوى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الحَقِّ ، وأمّا طولُ الأَمَلِ فَيُنسِي الآخِرَةَ ، الإمام عليّ عليه السلام : إنَّما أهلَكَ النّاسَ خَصلَتانِ ؛ هُما أهلَكَتا مَن كانَ قَبلَكُم وهُما مُهلِكَتانِ مَن يَكونُ بَعدَكُم : أمَلٌ يُنسِي الآخِرَةَ ، وهَوىً يُضِلُّ عَنِ السَّبيلِ .

كثرة المال وطلب السعة في التجارة ، الإمام الباقر عليه السلام : كانَ عَلى عَهدِ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله مُؤمِنٌ فَقيرٌ شَديدُ الحاجَةِ مِن أهلِ الصُّفَّةِ « 1 » ، وكانَ مُلازِماً لِرَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله عِندَ مَواقيتِ الصَّلاةِ كُلِّها لا يَفقِدُهُ في شَيءٍ مِنها ، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله يَرِقُّ لَهُ ويَنظُرُ إلى حاجَتِهِ وغُربَتِهِ ، فَيَقولُ : يا سَعدُ ، لَو قَد جاءَني شَيءٌ لَأَغنَيتُكَ . قالَ : فَأَبطَأَ ذلِكَ عَلى رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله ، فَاشتَدَّ غَمُّ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله لِسَعدٍ ، فَعَلِمَ اللَّهُ سُبحانَهُ ما دَخَلَ عَلى رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله مِن غَمِّهِ لِسَعدٍ . فَأَهبَطَ عَلَيهِ جَبرَئيلَ عليه السلام ومَعَهُ دِرهَمانِ ، فَقالَ لَهُ : يا مُحَمَّدُ ، إنَّ اللَّهَ قَد عَلِمَ ما قَد دَخَلَكَ مِنَ الغَمِّ لِسَعدٍ ، أفَتُحِبُّ أن تُغنِيَهُ ؟ فَقالَ : نَعَم . فَقالَ لَهُ : فَهاكَ هذَينِ الدِّرهَمَينِ فَأَعطِهِما إيّاهُ ومُرهُ أن يَتَّجِرَ بِهِما . قالَ : فَأَخَذَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله ثُمَّ خَرَجَ إلى صَلاةِ الظُّهرِ ، وسَعدٌ قائِمٌ عَلى بابِ حُجُراتِ رَسول‌ِاللَّهِ صلى الله عليه وآله يَنتَظِرُهُ ، فَلَمّا رَآهُ رَسول‌ُاللَّهِ صلى الله عليه وآله قالَ : يا سَعدُ ، أتُحسِنُ التِّجارَةَ ؟ فَقالَ لَهُ سَعدٌ : وَاللَّهِ ما أصبَحتُ أملِكُ مالًا أتَّجِرُ بِهِ ! فَأَعطاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله الدِّرهَمَينِ ، وقالَ لَهُ : اتَّجِر بِهِما وتَصَرَّف لِرِزقِ اللَّهِ . فَأَخَذَهُما سَعدٌ ومَضى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله حَتّى صَلّى مَعَهُ الظُّهرَ وَالعَصرَ ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله : قُم فَاطلُبِ الرِّزقَ ، فَقَد كُنتُ بِحالِكَ مُغتَمّاً يا سَعدُ . قالَ : فَأَقبَلَ سَعدٌ لا يَشتَري بِدِرهَمٍ شَيئاً إلّا باعَهُ بِدِرهَمَينِ ولا يَشتَري شَيئاً بِدِرهَمَينِ إلّاباعَهُ بِأَربَعَةِ دَراهِمَ ، فَأَقبَلَتِ الدُّنيا عَلى سَعدٍ فَكَثُرَ مَتاعُهُ ومالُهُ وعَظُمَت تِجارَتُهُ ، فَاتَّخَذَ عَلى بابِ المَسجِدِ مَوضِعاً وجَلَسَ فيهِ فَجَمَعَ تِجارَتَهُ إلَيهِ ، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله إذا أقامَ بِلالٌ لِلصَّلاةِ يَخرُجُ وسَعدٌ مَشغولٌ بِالدُّنيا ، لَم يَتَطَهَّر ولَم يَتَهَيَّأ كَما كانَ يَفعَلُ قَبلَ أن يَتَشاغَلَ بِالدُّنيا ، فَكانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله يَقولُ : يا سَعدُ ، شَغَلَتكَ الدُّنيا عَنِ الصَّلاةِ ! فَكانَ يَقولُ : ما أصنَعُ ، اضَيِّعُ مالي ؟ ! هذا رَجُلٌ قَد بِعتُهُ فَاريدُ أن أستَوفِيَ مِنهُ ، وهذا رَجُلٌ قَدِ اشتَرَيتُ مِنهُ فاريدُ أن اوَفِّيَهُ . قالَ : فَدَخَلَ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله مِن أمرِ سَعدٍ غَمٌّ أشَدُّ مِن غَمِّهِ بِفَقرِهِ ، فَهَبَطَ عَلَيهِ جَبرَئيلُ عليه السلام ، فَقالَ : يا مُحَمَّدُ ، إنَّ اللَّهَ قَد عَلِمَ غَمَّكَ بِسَعدٍ ، فَأَيُّما أحَبُّ إلَيكَ حالُهُ الأولى أو حالُهُ هذِهِ ؟فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله : يا جَبرَئيلُ ، بَل حالُهُ الأولى ، قَد ذَهَبَت دُنياهُ بِآخِرَتِهِ . فَقالَ لَهُ جَبرَئيلُ عليه السلام : إنَّ حُبَّ الدُّنيا وَالأَموالِ فِتنَةٌ ومَشغَلَةٌ عَنِ الآخِرَةِ ، قُل لِسَعدٍ يَرُدُّ عَلَيكَ الدِّرهَمَينِ اللَّذَينِ دَفَعتَهُما إلَيهِ ، فَإِنَّ أمرَهُ سَيَصيرُ إلَى الحالَةِ الَّتي كانَ عَلَيها أوَّلًا . قالَ : فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله فَمَرَّ بِسَعدٍ ، فَقالَ لَهُ : يا سَعدُ ، أما تُريدُ أن تَرُدَّ عَلَيَّ الدِّرهَمَينِ اللَّذَينِ أعطَيتُكَهُما ؟ فَقالَ سَعدٌ : بَلى ومِئَتَينِ . فَقالَ لَهُ : لَستُ اريدُ مِنكَ يا سَعدُ إلَّاالدِّرهَمَينِ ، فَأَعطاهُ سَعدٌ دِرهَمَينِ . قالَ : فَأَدبَرَتِ الدُّنيا عَلى سَعدٍ حَتّى ذَهَبَ ما كانَ جَمَعَ ، وعادَ إلى حالِهِ الَّتي كانَ عَلَيها .

الحرص على الدنيا ، الإمام عليّ عليه السلام : النّاسُ فِي الدُّنيا عامِلانِ : عامِلٌ عَمِلَ فِي الدُّنيا لِلدُّنيا ، قَد شَغَلَتهُ دُنياهُ عَن آخِرَتِهِ ، يَخشى عَلى مَن يَخلُفُهُ الفَقرَ ، ويَأمَنُهُ عَلى نَفسِهِ ، فَيُفني عُمُرَهُ في مَنفَعَةِ غَيرِهِ ، وعامِلٌ عَمِلَ فِي الدُّنيا لِما بَعدَها ، فَجاءَهُ الَّذي لَهُ مِنَ الدُّنيا بِغَيرِ عَمَلٍ ، فَأَحرَزَ الحَظَّينِ مَعاً ، ومَلَكَ الدّارَينِ جَميعاً ، فَأَصبَحَ وَجيهاً عِندَ اللَّهِ لا يَسأَلُ اللَّهَ حاجَةً فَيَمنَعُهُ .

اللهم أصلح لي ديني فإنه عصمة أمري وأصلح لي آخرتي فإنها دار مقري وإليها من مجاورة اللئام مفري ، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير ، والوفاة راحةً لي من كل شر ، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين .

{ بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣) } الكوثر [١-٣]

الخطبة الثانية لصلاة الجمعة كانت حول دروس من قصة طالوت

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمدُ للهِ الَّذي لا يُهتَكُ حِجابُهُ وَلا يُغلَقُ بابُهُ وَلا يُرَدُّ سائِلُهُ وَلا يُخَيَّبُ آمِلُهُ، الحَمدُ للهِ الَّذي يُؤمِنُ الخائِفينَ وَيُنَجّي الصَّالِحينَ وَيَرفَعُ المُستَضعَفينَ وَيَضَعُ المُستَكبِرينَ وَيُهلِكُ مُلوكاً وَيَستَخلِفُ آخَرينَ ، اللهم صل على محمد المصطفى وعلي المرتضى ، والصديقة فاطمة الزهراء ، والحسن المجتبى والحسين الشهيد بكربلاء، وصلِّ على أئمة المسلمين ، علي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وموسى بن جعفر ، وعلي بن موسى ، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ، والحسن بن علي العسكري ، والحجة القائم المنتظر المهدي ، حججك على عبادك وأمنائك في بلادك صلاة كثيرة دائمة تكون لهم رضاً ولمحمد وآل محمد أداءً وقضاء ، بحولٍ منك وقوةٍ يا رب العالمين .

قال تبارك وتعالى { أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اللَّـهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } البقرة – ٢٤٦

تتحدث هذه الآية والآيات الخمس التي من بعدها عن قصةٍ من قصص بني إسرائيل ، وفصلٍ من فصول حياتها عبر التاريخ الطويل .

وملخص القصة أنهم بعدما أنجاهم الله من بطش فرعون بقيادةِ موسى عليه السلام وأسس لهم دولةً حتى أصبحوا قوة عظيمة ، ماداموا ملتزمين بالشريعة ، ولكن نفس السمات التي تحملها الشخصية اليهودية اليوم هي ذاتها في الماضي ، فما ان استقوت وعَظُمَ سلطانُها حتى تجبرت وتكبرت فغيَّبَ الله عنهم التابوت (صندوق العهد) ثم سلّطَ الله عليهم من يسومهم سوءَ العذاب ، وقد أخرجهم الفلسطينيون من ديارهم واسترقوا أبنائَهم واستعملهم جالوت جنوداً وعبيداً عمالاً خارج بيوتهم وأبعدهم عن ديارهم ، ومن شدةِ جَهْدِهم وتَعَبهِم ونَصَبِهِم ، قصدوا نبياً لهم وهذا النبي اسمه إِشْمُوئَيل أن يبعث لهم ملكاً يقاتلون معه ، ومقصدهم أن يدعوا الله ليتخذ لهم قائداً يتولى أمرهم ويكون ملكاً لهم بعد أن يطرد منها قوم جالوت، ولكن الأنبياء بما وفقهم الله من رؤيةِ بواطن الناس ومعرفتهم بشخصية اليهود ، فقال لهم { هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اللَّـهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } كان يعرف فيهم حبَ الدنيا وحبَ البقاء ، فكان الاختبار الأول على دعواهم القتال ، أن كتب عليهم القتال فتولوا إلا قليلا ، فالأغلب انسحب وآثر معيشة الذل على الكرامة ، وتلك الأمة التي قبلت بالجهاد لم تكن لتخلوا من الامتحان والابتلاء ، في اختيار شخصية القائد الملك { وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّـهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً } طالوت كان راعياً مع أبيه في أطراف القرى ، وقد خرج وصاحبه يطلبون ماشيةً لهم تاهت في الصحراء ، فساروا أياماً حتى انتهى بهم المسير إلى مدينة صوف مدينة النبي اشموئيل ، فقال له صاحبه ، لِمَ لا نلتقي بالنبي حتى يخبرنا عن ضالتنا حتى التقيا بالنبي على أسوار المدينة فعرفه النبي هو المختار من قبل الله ، فلما أخبر قومه أن الله اختار لهم طالوت ملكا ، فـ{ قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ } كانت هذه هي مقاييسهم ماديةً بحتة ، لابد

أن يكون من البيوتات المعروفة وله نسب عريق ، ولا يمكن أن يتصدى لقيادة الأمة وهو من بقية رعايا اليهود ، فكانت مقاييسهم النسب والمال ، فطالوت لم يكن من أسرة لاوي التي ظهر منها الأنبياء، و لا كان من أسرتي يوسف أو يهودا اللتين سبق لهما الحكم، بل كان من أسرة بنيامين المغمورة الفقيرة ، ولكن النبي أدرك خطأهم مرةً أخرى فـ { قالَ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّـهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّـهُ واسِعٌ عَلِيمٌ } مبيناً أن سمات القيادة ليست في المال وبيوتات الشرف ، بل أن المقاييس الإلهية ، تعتمد على ركنين أساسين ؛ الأول : العلم ، والثاني : الكاريزما الجسدية وزاده بسطةً في العلم والجسم ، وكلاهما مطلوبان في الحرب والقيادة في الحكم . وهذا هو الاختبار الثاني الذي لم يصمد به الكثير حتى طلبوا دليلاً على أنه اختيارٌ إلهي وليست مقاصد بشرية ، فأعطاهم النبي دليلاً متفقٌ عليهم عند بني إسرائيل وهو صندوق العهد الذي افتقدوه منذ زمن طويل ، جاء على لسان نبيهم {وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فلما وجدوه أذعنوا لقيادته ، ولم تنته الاختبارات في بني إسرائيل بعد أن تولى قومٌ منهم لما كتب القتال ، ومن ثم تولى بعض منهم لأن الاختيارات لم تكن وفق مقاييسهم ، كان الاختبار الثالث حين سار بهم لملاقات عدوهم حتى قطع مسافةً طويلة تحت أشعة الشمس وأخذ بهم العطش ، فأراد أن يمتحن أصحابه بطلب من الله عز وجل { فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّـهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ } فلم يصمد الأغلب أمام مشتهيات النفس والخضوع لرغباتها ، فعلم طالوت أن أغلب جيشه لا يمتلك إرادةً حقيقيةً للقتال ، فمن ضَعَفَ أمام الماء ورغبات النفس ، فهو أمام السيف والقتال أضعف ، فاتجه نحو القلة المؤمنة مستعداً للقتال بهم ، ولم تنتهِ الاختبارات ، حتى أصبحت القلة أمام اختبار كثرة العدو وتفوقهم العسكري عدة وعددا ، { فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ } حتى لم يبقَ معه إلا القلة القليلة التي صمدت أمام كل الاختبارات ، فـ { قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّـهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّـهِ وَ اللَّـهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } ، ومع هذا التسليم لله والصمود أمام كل الاختبارات والرضوخ لمراد السماء ، كانت السبب لتكون محلاً لتوفيق الله ، فكان الامتحان كبيراً وصعباً لفئةٍ قليلةٍ أن تصمدَ أمام هذه القوة ، فلا بد من الرجوع إلى الله وطلب الصبر أمام هذا الامتحان { وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ } ، حتى أمد الله القلة بالثقةِ وبالنصر على اكبر الجيوش ، فتبين أمامهم ضعف ما كانوا يحذرون وعلموا أن التوكل والصبر عاملين أساسيين في النصر ، { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّـهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّـهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ }

الدروس المستخلصة من هذه القصة :

الأول : ان يكون الإنسان قدر ما يطلبه من الله من تكليف ، وأن يكون وسع هذا التكليف ، كما نحن اليوم ندعو لملك وقائدٍ لنا ، وهو الإمام الحجة بالظهور ، فهل سألنا أنفسنا أننا قدْرَ التكليف ، وإذا ما خرج فهل سنخذله أوأن يتواكلَ بعضنا على بعض .

الثاني : اختيار القيادة الدينية قضيةٌ إلهية ، وليست كيفية ولا رغباتٌ نفسية ، ولا هي مقاييس مصلحية نحن من يضعها ، بل أن القيادة منصب رباني هو يتولاه وهو من يختار له من يشاء ومن هو الأصلح ، لا دخل لها بالنسب ولا بالثروات ولا من بيوتات الشرف ولا الأعمار وغيرها ، كالتي نقع أسراء تحتها حين تختار الأمة مرجعها وقائدها ، بل العلميّة وكاريزما الشخص وخطابه وإدراكه بما تمر به الأمة ومعرفته بأوضعها وأحوالها قال تعالى { لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ } ، كما سأل أحد المؤمنين في زمانه ، السيد الشهيد الصدر (قده) ، كم سعر الطماطم ، أجابه السيد (التازة لو المعينة) فأجابه الرجل أشهد أنك أنت الأعلم ، والسؤال

والجواب لا دخل له بمتانة الاستدلال وبحوث الخارج ، لكنه رآه أعلم بأمور الناس وأحوالهم ، فشهد له بالأعلمية وقلده .

الثالث : اجتياز المؤمن اختباراً لا يعني انتهاء مرحلة الاختبارات ، فمهما طالت ايامُ حياتِك ، فاعلم أنك ربما ستواجه بعددها اختبارات وربما تنجح في أول الطريق ، وتفشل في نهايته ، فكن حذراً من امتحان الله ومكره ، ولا تأمن في هذه الدنيا أنك أديت الذي عليك .

الرابع : ليس الحق حليف العدد ، بل قد تكون القلة هي التي على حق ، قال تبارك وتعالى { وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّـهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ } و قال { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ } وبحدود خمسة وأربعين مرة تكررت الأكثرية وكلها في محل الذم ، بينما قال { وقليلٌ من عبادي الشكور }

الخامس : أن الصبر أحجى أمام كل البلاءات والابتلاءات التي يمر بها الفرد والجماعة والأمة ، فهي كفيلة بتعدي الاختبار والنجاح ، { قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا }

أخيراً : أن النصر صنعُ الله ، وليس من صنع الإنسان ، وإلا فالمقاييس العقلية والمنطقيةِ حاكمةٌ أن الغَلَبَةَ من نصيب الأكثر عدةً وعدداً وتنظيماً ، ولكن الله يقول النصر يمن به على من يشاء بإذنه ، فالفعلُ فعلُ الله { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّـهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّـهَ رَمى وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وما النصرُ إلا نصرُ الله { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّـهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّـهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ } .

اللهم آمنّا في أوطاننا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ولا يخافك فينا ، اللهم حصن ثغور المسلمين وأيد حماة الدين ، وسدد رميتهم ، واخذل عدوهم وأعنهم عليهم ، اللهم ارحم شهداءنا وموتانا ، وشافي وعافي جرحانا ومرضانا ، وادفع عنا شر الأشرار وكيد الفجار وطوارق الليل والنهار ، إلا طارق يطرق بخير برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآل محمد .

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥) ـ الفيل [١-٥]

 

لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرامالنعيم نيوز

لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التاليالنعيم نيوز

كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا علىقناة النعيم الفضائية

كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرامالنعيم نيوز

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى