بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تبارك وتعالى: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ* وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ (سورة الحشر:18-19)
مقدمة:
لم يبق إلا يومان ونودع سنة ميلادية ونستقبل عاماً ميلادياً جديداً.. وقد جرت العادة أن تكون رأس السنة الميلادية هي مناسبة لإقامة السهرات والحفلات واللقاءات التي تجري في الأماكن العامة والبيوت، وقد لا يكون في ذلك أي مانع ديني إن حافظت هذه اللقاءات والحفلات والسهرات على الحدود والضوابط الشرعية، ولم تدخل فيما يعهد من أجواء رأس السنة حيث تستباح عند الكثيرين الحرمات ويفقد فيها حتى من كان يوصف بالرزانة صوابه واستقامته..
لكن يبقى السؤال الذي لا بد أن نطرحه على أنفسنا، عن مدى الترابط بين أجواء الفرح الشرعية التي نريدها وبين ما يجري في رأس السنة، لأننا نخشى أن نكون في هذه المناسبة مأخوذين بالسلوك الجمعي والذي نهانا رسول الله(ص) وأهل بيته أن نكون في أي من مواقعنا صدىً لأحد كما ورد ذلك عن الإمام الصادق (ع) : ( لا تكونن إمعة, تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس).
فمناسبة رأس السنة لو أردنا تحليلها ووعيها في عمقها لرأينا أنها لا تنسجم مع كل هذا الجو الصاخب واللاهي وحتى مع جو الفرح الشرعي، لأنها تعني في الحقيقة خسارة الإنسان لسنة من عمره، يصبح معها الإنسان أقرب لأن يغادر هذه الحياة وأن يقف بين يدي ربه ليواجه مسؤوليته حين يأتي النداء {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (الصافات:24){أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}(المؤمنون:115) {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} (النحل:111){وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا}( الجاثية: 28).
يمكن النظر للاحتفاء السنوي العالمي بذكرى ميلاد نبيٍّ من الأنبياء، وهو السيّد المسيح(وبصرف النظر عن مدى الدقة في تزامن التاريخ المعتمد مع تاريخ الميلاد الفعلي للسيّد المسيح)، باعتباره مؤشّرًا ودليلًا على عمق الميل الديني في نفوس بني البشر، بالرغم من كلّ مظاهر الحضارة المادية الجارفة، ورغم ما مرّ على البشرية من عظماء آخرين، علماء ومفكّرين ومكتشفين!.
إنّ المجتمعات الغربية في توجّهها العام، لا تزال تنزع نحو الحفاظ على الهوية الدينية العامة، كما في الاحتفاء بأعياد الميلاد. وإلّا ماذا يعني أن يحتفلوا بميلاد النبي عيسى وينتسبون إليه، ويعتبرون الصليب شعارًا وهويّة لهم، في إشارة إلى ما يعتقدونه من صلب السيّد المسيح. إنّ هذا يدلّ قطعًا على الميل الديني ؛ وبالتالي، فإنّ الاحتفال بميلاد نبيٍّ من الأنبياء العظام، ومن الخمسة أولي العزم، أمر لا يخرج بأيِّ حالٍ عن دائرة الدين، وإنْ باتت المناسبة جزءًا من الهوية الدينية لأمة معينة، فلكلّ أمة هويتها وشعائرها وتقاليدها.
ومن هنا ينبغي النظر إلى الثورة على الكنيسة في الغرب على أنها: ( ثورة على الاستبداد الديني حصرًا، لا ثورة على أصل الدين…..فقد ثار الناس على الاستبداد الديني، والقيود الدينية الصارمة، التي وضعها رجال الكنيسة على الناس طويلًا، لكن الناس في مقابل ذلك عادوا لعمقهم الديني المتجذّر في النفوس، فالشعوب التي ثارت على الكنيسة لم تنسلخ من الدين تمامًا)().
ولأننا على أعتاب سنة جديدة حسب التقويم الميلادي السائد على المستوى العالمي، أردنا تسليط الضوء على موضوع التعامل مع بدء أيّ سنة جديدة بالنسبة لأيّ مجتمع.
فيمكن أن تسجل على الاحتفالات في رأس السنة بعض الملاحظات, أبرزها عدم الانضباط في مثل هذه الاحتفالات التي نستطيع ان نسميها عبثية, إذ نرى أن افعال كثير من المحتفلين لا مبرر معقول لها! فهم يطلقون هذه الضجة والصراخ الذي يحصل عندما تدق الساعة الثانية عشرة ليلا,
ماذا تعني بالنسبة لهم خرج عام ودخل عام؟
في حين إنَّ كثيراً من دعاة المدنية, كما يقول سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي ( دام ظله): ( ينتقدونا لأجل أننا نعظم شعائر اهل البيت عليهم السلام ما معنى هذه الممارسات التي تؤدونها؟ رغم انها فعاليات فيها اهداف معنوية سامية حينما نحيي قضية الامام الحسين عليه السلام انما نكرم فيه البطولة ومقاومة الظلم والاستبداد وإحياء الامة وبعث روح الحياة فيها مضافا الى اظهار الولاء لأهل البيت عليهم السلام فلماذا تُنتقَد فعالياتُنا مع انها تحقق هذه الاهداف الكثيرة ) .
فعلينا ان نكون اكثر ثباتا ونرد على الاشكالات التي يوردها البعض على مناسباتنا الدينية فنحن مهرجاناتنا لها مردودات ايجابية معنوية ولكن ماهي مردودات أو ثمرات اعمالهم مثل مهرجان مصارعة الثيران في اسبانيا حيث تطلق الثيران من حظائرها وتهرع للشوارع متوجهة الى الملعب والناس متكدسة امامها وهي تقتل وتجرح وتضرب على طول المسافة ما هو معنى هذا الفعل؟
فهؤلاء المحتفلون اي انجاز حققوا حتى يحتفلوا؟ الان صفحة من صفحات العمر عنوانها 2023م انتهت واغلقت وستبدأ صفحة بيضاء جديدة عنوانها 2024م فماذا كتب في الصفحات السابقة نسأل الله تعالى ان تكون حافلة بالأعمال الصالحة.
ينقل العلامة المجلسي رواية عن الامام الحسن إذ مرَّ (عليه السلام)في يوم فطر بقوم يلعبون ويضحكون فوقف على رؤوسهم فقال: (إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه فيستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا ، وقصر آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من ضاحك لاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون، وأيم الله لو كشف الغطاء لعلموا أن المحسن مشغول بإحسانه، والمسيئ مشغول بإساءته ، ثم مضى) .
وما أحسن ما يقوم به ثلة من المؤمنين بإيجاد معادل موضوعي, من زيارة للأئمة الأطهار(ع) وربما يسمعون كلاماً مفيدا من علماء الدين, في مقابل من يلهو ويلعب وتصدر منهم بعض الافعال المحرمة, في رأس السنة الميلادية, وقد أكبرت المرجعية الدينية فعلهم هذا جزاهم الله خيراً.
إذن كيف ينبغي للمؤمنين أن يتعاملوا مع السنة الجديدة؟
أولاً: استقبال السنة الجديدة بحالة تفاؤل وأمل وثقة واطمئنان: وعلى المؤمن الواعي أن يحمد الله تعالى على أن بلّغه العام الجديد، وعلى ما أنعم به عليه في العام المنصرم، وما كفاه من شرور، ومكّنه من تجاوز كثيرٍ من المشاكل والعقبات.
فالتفاؤل يريح نفس الإنسان، ويزيد في فعاليته وإنتاجه، لذلك ورد عن رسول الله : (نِعمَ الشَّيءُ الفَألُ؛ الكَلِمَةُ الحَسَنةُ يَسمَعُها أحَدُكُم).
وكان النبي (ص) كثير التفاؤل، ويتصيّد أيّ مناسبة لبثّه ونشره بين أصحابه، ففي قصة الحديبية حينما قيل له إنّ المفاوض من قبل قريش هو (سهل بن عمرو)، قال: (لقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِن أمْرِكُمْ)(), وعن الامام علي(ع) قال : (تَفَأَّلْ بِالْخَيْرِ تَنْجَحْ).
ثانياً: أن تكون السنة الجديدة فرصة للمحاسبة والمراجعة: يقول سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي(دام ظله): ( إنَّ السنة الجديدة تمثل فرصة للمراجعة وليست فرصة للعبث واللعب, ربما كانت رأس السنة للمسيحين يحتفلون بأعياد الميلاد, أما الان فالمسلمون هم المحتفلون الرئيسيون بما فيها المحافظات المقدسة فالمفروض أن نأخذ الموعظة في كل حياتنا ومنها هذا الوقت وهذا مدعاة للمحاسبة والمراجعة).
أيها الأحبة: ما أسوأ الإنسان الذي يبدأ سنته بارتكاب المعاصي، كما يفعل الكثيرون، وكم هو مبارك هذا الإنسان الذي يتوقف مع نفسه طويلاً في هذه الليلة، ممحصاً لأعماله ومتهيئاً لمواجهة امتحانات وابتلاءات السنة القادمة، داعياً الله أن يجتازها بتوفيق منه سبحانه وتعالى.
وقد حرص الرسول الله(ص) على أن يقدم انموذجاً من المراجعة للنفس بين يدي الله في رأس سنة جديدة حين كان يقف في آخر ليلة منها، ولنـا في رسول الله(ص) أسوةٌ حسنةٌ لا بد أن نقتدي بها، ليصلي ركعتين ويقول كما جاء في الحديث: (ما عملت في هذه السنة من عمل، نهيتني عنه ولم ترضه، ونسيتُهُ ولم تَنسَهُ، ودعوتني إلى التوبة بعد اجترائي عليك، اللهم فإني أستغفرك منه فاغفر لي، وما عملت من عمل يقربني إليك فاقبله منى، ولا تقطع رجائي منك يا كريم).
ثم كان يقف في أول السنة الجديدة ليصلي أيضاً ويقول: (… وَهذِهِ سَنَةٌ جَدِيدَةٌ فَأَسْأَلُكَ فِيها العِصْمَةَ مِنَ الشَّيْطانِ وَالقُوَّةَ عَلى هذِهِ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ بالسُّوءِ وَالاشْتِغالَ بِما يُقَرِّبُنِي إِلَيْكَ، يا كَرِيمُ).
وهناك دعاء يقرأ في بداية العام الجديد, يثير في نفس الإنسان التطلع للتحول والتغيير إلى الأفضل: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ يَا مُدَبِّرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَا مُحَوِّلَ الْحَوْلِ وَالْأَحْوَالِ حَوِّلْ حَالَنَا إِلَى أَحْسَنِ الْحَالِ).
ومن المفيد للإنسان أن يستثمر دخول العام الجديد في تحفيز إرادته وعزمه على التجديد والتغيير؛ فيقوم بمراجعةٍ لأفكاره وعاداته وأساليب حياته، وحال علاقاته مع الآخرين، ليصحح الخطأ فيها، ويسدّ النواقص والثغرات، ويضع أمامه خطة للبدائل والخيارات الأفضل، ليسير عليها في العام الجديد.
فمثلًا في المجال الروحي وفي علاقاته مع ربه؛ عليه أن يفكر في مستوى التزامه بواجباته الدينية، وإقباله على البرامج والأعمال الصالحة المرغوبة عند الله تعالى.
وفي المجال الثقافي والمعرفي عليه أن يفكر في تخصيص جزء من وقته لتنمية مستوى ثقافته ومعرفته.
وفي المجال الاجتماعي- مجال علاقاته بالآخرين- وبخاصة من هم قريبون منه، عليه أن يخطط لمعالجة أيّ مشكلة أو سلبية على هذا الصعيد، وأن يعمل على تحسين علاقاته، بالمزيد من تفهّم الآخرين، والإحسان إليهم.
وتابع إيها الأحبة: على الإنسان الواعي أن يقوم بمراجعة لسيرته وسلوكه، ولا يبقى مسترسلًا مع عاداته وأساليبه دون إعادة نظر وتفكير, فإذا وجد لديه عادة أو سلوكًا خطأ، أو مرجوحًا، فليقرّر تغييره وتجاوزه في السنة الجديدة. وليفكر في إنشاء عادات جديدة حسنة مفيدة لدنياه وآخرته؛ فمشكلة الإنسان هي الاستمرار في السير أو الكلام أو العمل دون التفات أو توقف.
ومن هنا جاءت روايات أهل البيت (ع) تشجع الإنسان على التسلح بالإرادة لمقاومة سلطان العادة.
ورد عن أمير المؤمنين علي(ع) : (بغَلَبَةِ اَلْعَادَاتِ اَلْوُصُولُ إِلَى أَشْرَفِ اَلْمَقَامَاتِ)
وورد عنه (عليه السلام): (غَالِبُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى تَرْكِ اَلْعَادَاتِ وَجَاهِدُوا أَهْوَائَكُمْ تَمْلِكُوهَا).
وورد عنه(ع) : (غَيِّرُوا اَلْعَادَاتِ تَسْهَلُ عَلَيْكُمُ اَلطَّاعَاتُ)
وختاماً نقول: نحن معنيون بأنفسنا أن نزكيها، أن نطهرها، وأن نصفيها من كل التبعات كي لا يأخذها غيرنا إلى حيث يريد, فهناك من يسعى دائماً إلى أن يسلبنا أنفسنا بأن يجعلها في تياره, وهذا لا يحصل إلا بأن نحاور أنفسنا وأن ندقق في أعمالها، وأن نجاهدها بأن نستعين بالله على تصحيح مسارها وتصويب أمرها حتى لا نتفاجأ عندما نقف بين يدي الله بما حذرنا منه عندما قال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}. ( الكهف: 103) أو من الذين قال عنهم: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}. ( الكهف:49)
نسأل الله أن يمتعنا بنفوس طاهرة صافية واعية زاكية وأن يكون مستقبل أمرنا خيراً من ماضيه، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاه.
أقيمت الخطبة المركزية الموحدة لصلاة الجمعة، بإمامة الخطيب الشيخ سلام الربيعي “دام توفيقه”حول “الاحتفال برأس السنة الميلادية.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا في موقع التلغرام: النعيم نيوز
ولمتابعتنا أيضا على موقع فيسبوك يرجى الضغط أيضا على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
ولا تنسى أيضا الاشتراك في قناتنا على موقع الانستغرام: النعيم نيوز