
كتب علي لفتة سعيد: حين انتبه الإنسان إلى وجوده، أدرك أن الإعمار هو المسار الذي يتوجّب عليه المضي فيه، كي يمنح الحياة معنى.
فهو يفكّر في الحياة، إذن، فهو يفكّر فيما حوله من إمكانياته.
ومع توسّع الحياة، وبناء الدول، والصراع مع تطوّرها، نشأت الخدمات التي تواكب المعنى الإنساني.
ومع تطوّر الحكومات، أدرجت هذه الخدمات في مناهجها كإحدى ركائز العلاقة بين الإنسان والحياة من جهة، وبين الإنسان والسلطة من جهة أخرى، حيث تُتوج فعاليات السلطة ويُقبل بها من قبل الإنسان، عبر تفاعل الخدمات مع المتطلبات والحاجات المتزايدة.
وقد تشكلت هذه الخدمات في شتى المجالات، بدءاً من التعليم والصحة والطرق والتجارة، مروراً بتوفير الغذاء، والإنتاج، والصناعة، وصولاً إلى ما لا يُحصى من أشكال الخدمات، التي أصبحت لها وزارات وهيئات ومؤسسّات مختلفة ومتنوعة، هدفها توفير هذه الخدمات باعتبار الإنسان هو الغاية الكبرى لإدارة البلدان.
لكن هذه الخدمات لا تأتي فقط من منطلق الحاجة المادية والملموسة، بل أيضاً من ضرورة وعي الإنسان بأهمية الحفاظ عليها، فالوعي بهذه الخدمات يتطلّب تغيير المفاهيم السائدة التي قد تقتل فعاليتها، أو تجعلها شيئاً مضمَراً وغير مؤثّر.
وهذا يعني أن أيّ تغيير يطرأ على مستوى الخدمات يجب أن يرافقه تغيير في سلوك الإنسان وتصرّفاته، خصوصاً في المجتمعات التي تنهض من جديد، أو تلك التي تخرج من الحروب، أو تشهد انقلابات وتغييرات جذرية في أنظمتها الحاكمة.
فحين تفرض بعض الحكومات سلطتها المطلقة على شعوبها، غالباً ما تولد ردود أفعال غير محسوبة، تعكس نقمةً وانتقاماً تجاه كلّ ما له علاقة بالسلطة السابقة، والتي قد تكون تسبّبت في كوارث اجتماعية واقتصادية لذلك الشعب.
إن الأهم في مسألة التغيير الذي يطرأ على المجتمعات، لا يكمن فقط في تقديم الخدمات كغاية نهائية، بل فيما يرافقها من تحوّلات ثقافية واجتماعية، لا سيما أن هذه المجتمعات تشهد العديد من الممارسات التي قد تكون مخالفة للقانون، مثلما هي مخالفة للمبادئ الوطنية والشرعية والاجتماعية.
ويؤدّي إلى تضخيم هذه الممارسات عوامل داخلية وخارجية، مما يجعل الحاجة إلى تغيير أفكار الأفراد/المواطنين، أشدّ إلحاحاً من مجرّد تقديم الخدمات الملموسة، رغم أهمية الأخيرة، وربما يكون التغيير الفكري هو الخطوة الأولى لضمان استدامة التحوّل الاجتماعي والانتقال من مرحلة الانتقام إلى مرحلة التعايش مع الواقع الجديد، وبناء المستقبل من خلال الاستفادة من صراعات الماضي وأزماته وكوارثه ونتائجه.
إن الأهم في عملية البناء الجديد ليس فقط توفير الخدمات، بل يجب أن يرافقها تغيير في أفكار الإنسان وسلوكه تجاه المجتمع ككل، وتجاه الخدمات باعتبارها مسؤوليةً مزدوجة، فمن جهة، هي مسؤولية الدولة بسلطتها في تقديمها، ومن جهة أخرى، هي مسؤولية الإنسان في الحفاظ عليها وضمان ديمومتها.
ولا يمكن تحقيق ذلك من خلال الخطابات المتكرّرة التي لا تعالج المشكلة الأساسية، بل من خلال إعادة بناء العلاقة بين السلطة والمواطن/ الإنسان، التي كانت متوتّرة في الماضي، بسبب غياب الثقة وانتشار الخوف، مما أدّى هذا التوتر إلى أن يشعر الإنسان بالانفصال عن الخدمات، بل وأحياناً بالعداء تجاهها، بدلاً من الشعور بالانتماء إليها.
ولهذا، فإن بناء علاقات جديدة تختلف جذرياً عما سبق، يتطلّب تغييراً جوهرياً في طريقة تفكير السلطة وتعاملها مع المواطن، بحيث تُبنى العلاقة على أساس تبادل المنفعة، لا على أساس الإملاء والخوف، ولن يتحقّق ذلك إلّا من خلال تغيير المفاهيم والأفكار، وهو ما يعتمد أولاً على سلوك السلطة نفسها، وطريقة تعاملها مع المجتمع.
إذ ينبغي أن يكون سلوك السلطة دافعاً إلى إعادة تشكيل وعي الإنسان/ المواطن، ليصبح أكثر تقبّلاً للمخرجات الإيجابية للدولة، وهذا لا يتحقّق إلّا عبر سياسات واضحة تستند إلى قوانين تضمن احترام الحقوق والواجبات بين الطرفين، ومن هنا، يصبح الإعمار والخدمات، في أحد وجوهه، هو عملية تغيير للأفكار والقناعات، وبناء علاقة جديدة قائمة على الثقة والمسؤولية المتبادلة.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز
لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
كما يمكنك أيضا الاشتراك بقناتنا على الانستغرام: النعيم نيوز