المرجع اليعقوبي يتحدث عن “ميراث المفقود”
تحدث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي، اليوم السبت، عن “ميراث المفقود”.
يبتلى الناس بحروب وكوارث وحوادث في البر والبحر تكون سبباً لفقدان أشخاص لا يُعلم مصيرهم وتنقطع أخبارهم ويكون لهؤلاء متعلقات كزوجة وأموال يراد معرفة الحكم الشرعي في كيفية التعامل معها.
ويراد بالمفقود هنا من انقطعت أخباره وخفي حاله فلا تُعلم حياته من موته أما المفقود الذي عُلمت حياته ولا يوجد احتمال معتد به لوفاته سوى غيبته وانقطاع أخباره فلا يُدرى في أي بلد هو فلا تشمله المسألة وحكم أمواله كحكم مجهول المالك، وهذا التفصيل في معنى المفقود يُذكر في كتاب الطلاق عند الحديث عن طلاق المرأة التي فُقِد زوجها.
ويختص البحث بإرث المفقود الذي يُبحث في الكتب الفقهية المتعارفة كالشرائع واللمعة في كتاب الميراث- فصل موانع الإرث، باعتبار أن الغائب غيبة منقطعة يمنع أولياؤه من التصرف في ماله حتى يتبين حاله وجداناً أو تعبداً.
والإرث في عنوان المسألة يمكن أن يراد به معنى اسم الفاعل بمعنى ميراث المفقود من غيره، ويمكن أن يراد به معنى اسم المفعول، أي ميراث غيره منه: فلو كان لشخص مال ففقد وانقطعت أخباره وآثاره ولا يُعلم أن كان حياً أو ميتاً فهل يبقى محكوم الحياة فيرث من الذين يتصل بهم الذين يموتون في غيبته وتضاف إلى أمواله التي تركها ولا يَحلّ التصرف في ماله فلا تقسّم على ورثته والى أي مدى يبقى محكوماً بالحياة.
وقد اتفق الفقهاء على لزوم التربص بمال المفقود وإنما اختلفوا في مدته على أقوال:
الأول: الحكم بحياته حتى يتحقق موته بالتواتر أو بالبينة أو بالخبر المحفوف بالقرائن المفيد للعلم أو بان تنقضي مدة لا يعيش مثله إليها غالباً وهو مختار الشيخ الطوسي في الخلاف والمبسوط وذكر العلامة في المختلف انه تبعه ابن البراج وابن حمزة وابن إدريس واختاره المحقق الحلي في الشرائع والشهيد الثاني في المسالك ونسبه إلى المشهور وخصوصاً المتأخرين منهم كالشهيد الأول وقال ((وهذه المدة ليست مقدرة عند الجمهور، بل ربما اختلفت باختلاف الأزمان والأصقاع. وربما قدرها بعضهم بمائة وعشرين سنة والظاهر الاكتفاء في زماننا بما دونها، فإن بلوغ العمر مئة سنة الآن على خلاف العادة)). ولكن الشيخ (رحمه الله) نقل في الخلاف عن علماء العامة التحديد بسبعين سنة عن بعض أصحاب مالك وتسعين عن البعض الآخر. وعن الحسن بن زياد اللؤلؤي وأبي يوسف بمائة وعشرين سنة.
الثاني: دفع المال إلى وارثه المليء خاصةً دون غيره و نسبه العلامة في المختلف إلى الشيخ المفيد (رضي الله عنه) ونقل قوله ((إذا مات إنسان وله ولد مفقود لا يعرف له موت ولا حياة، عُزل ميراثه حتى يعرف خبره، فإن تطاولت المدة في ذلك وكان للميت ورثة سوى الولد ملاء بحقه، لم يكن بأس باقتسامه، وهم ضامنون له إن عُرِف للولد خبر بعد ذلك)) ويستدل له بموثقة إسحاق بن عمار عن الإمام الكاظم عليه السلام قال إسحاق (سألته عن رجل كان له ولد فغاب بعض ولده فلم يدر أين هو ومات الرجل فكيف يصنع بميراث الغائب من أبيه؟ قال: يعزل حتى يجيء، قلت: فقد الرجل فلم يجيء قال: إن كان ورثة الرجل ملاء بماله اقتسموه بينهم فان هو جاء ردوه عليه)
الثالث: الانتظار عشر سنين ثم التصرف بأمواله وهو ما دلّت عليه صحيحة علي بن مهزيار قال: (سألت أبا جعفر الثاني (عليه السلام) عن دار كانت لامرأة وكان لها ابن وابنة فغاب الابن بالبحر وماتت المرأة فادعت ابنتها أن أمها كانت صيّرت هذه الدار لها وباعت أشقاصاً -أي ابعاضاً- منها وبقيت في الدار قطعة إلى جنب دار رجل من أصحابنا وهو يكره أن يشتريها لغيبة الابن وما يتخوف أن لا يحل شراؤها وليس يعرف للابن خبر فقال لي: ومنذ كم غاب؟ قلت: منذ سنين كثيرة قال: ينتظر به غيبة عشر سنين ثم يشتري فقلت: إذا انتظر به غيبة عشر سنين يحل له شراؤها؟ قال: نعم).
الرابع: التربص بالمال أربع سنين مع الفحص والطلب فإن لم يعثروا على خبره قسّموا ماله على الورثة دلت عليه موثقة سماعة عن الصادق (عليه السلام) قال: (المفقود يحبس ماله على الورثة قدر ما يطلب في الأرض أربع سنين فإن لم يقدر عليه قسم ماله بين الورثة فإن كان له ولد حبس المال وانفق على ولده تلك الأربع سنين) وموثقة إسحاق بن عمار قال: (قال لي أبو الحسن (عليه السلام) المفقود يُتربص بماله أربع سنين ثم يقسم) .
ويمكن جعل مختار سماحة الشيخ محمد اليعقوبي قولاً خامساً وهو: أن التحديدات الواردة في الروايات لم تؤخذ على نحو الموضوعية وإنما على نحو الطريقية باعتبارها كافية في مواردها لحصول الاطمئنان بالوفاة القاطع للعمل بالأصول التي بُني عليها القول الأول، وهذا الاطمئنان قد يحصل بالأربعة أو العشرة وقد لا يحصل بالعشرين فيُتربص بماله إلى مدة لا يعيش إليها أمثاله عادة.
صبري الناصري, [١٢/١١/٢٠٢٢ ٠٧:٤٧ ص] وقد اختار السيد الخوئي (قدس سره) ومدرسته الاكتفاء بالأربعة مع الفحص والطلب وبالعشرة من دون فحص، وقال السيد الخوئي (قدس سره) ((المفقود خبره والمجهول حاله يتربص بماله وفي مدة التربص أقوال والأقوى أنها أربع سنين يفحص عنها فيه فإذا جهل خبره قسم ماله بين ورثته الذين يرثونه لو مات حين انتهاء مدة التربص والأظهر جواز التقسيم بعد مضي عشر سنوات بلا حاجة إلى الفحص)).
وأما السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فاختار القول بوجوب التربص بمال المفقود أربع سنين واشترط أن تبدأ من حين رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي لا من حين فقده وأضاف شرطاً يقرّب قوله من مختارنا فقال (قدس سره): ((ويتم الفحص عنه خلالها حتى يحصل اليأس العرفي من الحصول عليه أو على خبره حياً أو ميتاً. فإن حصل اليأس لم يجب الاستمرار بالفحص ولكن يجب الانتظار إلى أربع سنين)).
وينطبق مختاره على ما رجحه سماحتهُ من جهتين:
الأولى: انه لم يجعل للأربعة موضوعية وإنما جعل المناط هو حصول اليأس من العثور على خبره وهو معنى ملازم للاطمئنان بوفاته عادة. واستشكل على القول بالعشرة بلا فحص قال (قدس سره) ((قيل: والأظهر جواز التقسيم بعد مضي عشر سنوات بلا حاجة إلى فحص إلا انه أمر مشكل بدون اتخاذ تلك الخطوات)).
الثانية: التصرف في تعريف المفقود بحيث لا يشمل الموارد التي استبعدنا التزام الفقيه بها، قال (قدس سره): ((المفقود خبره والمجهول حاله وهو الذي لا يعلم حياته من موته)) ثم قال بعد مسألتين: ((المفقود من عرفناه بحيث يكون مجهول المكان على تقديرَي الحياة والموت، وأما إذا كان معلوم المكان عادة كما لو ذهب إلى مدينة معينة وانقطع خبره أو مسجوناً كذلك لم يطبق عليه حكم المفقود بل هو بحكم الحي ما لم يحصل الاطمئنان بموته بالفحص المتزايد أو بمضي مدة لا يعيش فيها الفرد عادة)). وهو تفصيل حسن يجمع بين الأقوال ويحدد لكل قول مورده واستظهاره من الروايات ليس بعيداً بحيث تحمل كل واحدة على حالة من حالات المفقود.
انظر موسوعة فقه الخلاف لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)، ج 11, ص 441, الصادر عن دار الصادقين 1441هـ – 2020.